الإمام أبو حامد الغزالى عليه رحمة الله هو التلميذ المجتهد لإمام الحرمين أبى المعالى الجويني، وتأثره بأبى المعالى أمر لا خلاف عليه، والإمام الغزالى عالم مجدد له من الكتب - فى شتى التخصصات - ما يجعله ظاهرة فكرية تستحق الوقوف والدراسة ليس فى علم أصول الفقه فقط، بل فى علوم أخرى كالفلسفة، والتصوف.. إلخ. وبالنسبة لنظرية المقاصد يعتبر الغزالى هو الصائغ الحقيقى لهذه النظرية، وهو كذلك - فى رأى الكاتب - المسئول الأول عن شكل النظرية الذى وصلنا عبر مئات السنين، بكل ما فيه من مميزات، وبكل ما عليه من مآخذ وتحفظات، فنظرية مقاصد الشريعة عند جمهور الأصوليين نظرية «غزالية»، دون أدنى شك. بداية الكلام فى الموضوع تناول الغزالى نظرية مقاصد الشريعة فى عدة مؤلفات، وفى كل مرة كان يضيف أو يحذف أو يغير فى نسق كلامه وأفكاره حتى وصلت النظرية إلى صيغتها النهائية فى كتابه القيم «المستصفي» فى أصول الفقه. وإذا أردنا تتبع كلامه فى الموضوع من البداية، نجد أن نظرية المقاصد عند الإمام الغزالى مرت بثلاثة أطوار، هى: الطور الأول: وقد كان ذلك فى أحد كتبه التى ألفها فى بداية حياته العلمية وهو كتاب «شفاء الغليل فى بيان المشبه والمخيل ومسالك التعليل» وقد تكلم فى هذا عن كتاب القياس بشكل مسهب، وتناول مسلك المناسبة كمسلك من المسالك التعليلية فى مبحث العلة. ويذكر فى مبحثه هذا صياغة أولية لنظرية المقاصد الشرعية، فهو يطرح سؤالاً فى سياق عرضه للموضوع «ما المعيار الذى يعرف به كون المعنى مناسبًا؟»، ثم يجيب «المعانى المناسبة: ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها. وفى إطلاق لفظ المصلحة أيضًا نوع إجمال، والمصلحة ترجع إلى جلب نفع أو دفع مضرة. والعبارة الحاوية لها: أن المناسبة ترجع إلى رعاية مقصود. ثم هو يقسم المقصود إلى «دينى ودنيوي. وكل واحد ينقسم إلى: تحصيل وإبقاء. وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وقد يعبر عن الإبقاء بدفع المضرة. يعنى: أن ما قصد بقاؤه: فانقطاعه مضرة، وإبقاؤه دفع لمضرة. فرعاية المقاصد عبارة حاوية للإبقاء ودفع القواطع، وللتحصيل على سبيل الابتداء». ثم يضيف قائلاً:«وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد وما انفك عن رعاية أمر مقصود فليس مناسبًا، وما أشار إلى رعاية أمر مقصود فهو المناسب». ثم يغوص أكثر فى فلسفة الأمر «المناسب» أو «المقصود» فى الشرع، ويقول:«الشىء ينبغى أن يكون مقصودًا للشارع، حتى تكون رعايته مناسبة فى أقيسة الشرع. فقد علم - على القطع - أن حفظ النفس والعقل والبضع والمال، مقصود فى الشرع»، هكذا جعل الأمر - على سبيل القطع - بصياغة توحى بأن هذه الأمور الأربعة فقط هى مقصود الشارع الحكيم. بعد ذلك يتابع إمامنا الجليل شرحه لنظريته قائلاً:«نجعل القتل سببًا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح، وبقاؤها مقصود على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر؛ لأنه يزيل العقل، وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم، والبضع مقصود الحفظ؛ لأن فى التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها، عرف ذلك بالمنع من التعدى على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاتبة السارق بالقطع. وقد نبه الرب تعالى على مقصود القصاص بقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) (البقرة 179)، ونبه على فساد الخمر بقوله ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) (المائدة 91)، وهى من المضار والمحظورات فى أمور الدنيا، وقد يقترن به أيضًا مفسدة الدين. وقد نبه على مصالح الدين فى قوله فى الصلاة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )(العنكبوت 45)، وما يكف عن الفحشاء فهو جامع لمصالح الدين، وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضًا. بهذا ينتهى حجة الإسلام الغزالى من شرح الجزء الأول من نظريته فى مقاصد الشريعة، وهو الجزء المتعلق بالضرورات الخمس. ثم يردف بعد ذلك إلى الجزء الآخر من النظرية، يقول:«وجميع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. إلا أن المقاصد تنقسم مراتبها: فمنها ما يقع فى محل الضرورات ويلتحق بأذيالها ما هو تتمة وتكمله لها، ومنها ما يقع فى رتبة الحاجات، ويلتحق بأذيالها ما هو كالتتمة والتكملة لها. ومنها ما يقع فى رتبة التوسعة والتيسير الذى لا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجه، ولكن تستفاد به رفاهية وسعة وسهولة، فيكون ذلك - أيضًا - مقصودًا فى هذه الشريعة السمحة السهلة الحنفية، ويعلو بأذيالها ما هو فى حكم التحسين والتتمة لها، نصير الرفاهية مهيأ بتكميلاتها». ثم يضيف ضابطًا فى الموضوع بقوله : « وتختلف مراتب المناسبات فى الظهور باختلاف هذه المراتب: فأعلاها: ما يقع فى مراتب الضرورات، كحفظ النفوس، وأمثال اللواحق بهذه المرتبة: المماثلة فى استيفاء القصاص.. ومثاله فى الخمر: تحريم اليسير لكونه داعيًا إلى الكثير. ويضرب مثالاً للمرتبة الثانية (الحاجات): «تسليط الولى على تزويج الصغيرة، والتزويج من الصغيرة، ويجرى مجرى التتمة لذلك مراعاة الكفاءة ومهر المثل». أما المرتبة الثالثة: (التحسينات) أو حسب تعبيره: «ما لا يرجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين.. مثل سلب العبد أهلية الشهادة». إلى هنا ينتهى كلام إمامنا الجليل حجة الإسلام أبى حامد الغزالى رحمه الله، فى كتابه شفاء الغليل، الذى يمثل الطور الأول فى نظرية المقاصد عند الغزالى. ولا بد من تسجيل بعض الملاحظات: أولاً: بهذا الكلام السابق تكوَّن «جنين» نظرية المقاصد عند الإمام الغزالى، وملامح هذا الجنين تتحدد فى ثلاث نقاط: النقطة الأولى: الشرع يهدف إلى حفظ ضرورات الحياة، وهى أربع: النفس، العقل، والبضع، والمال. النقطة الثانية: مقاصد الشرع تنقسم إلى دينى، ودنيوي، وبينهما نوع كبير منه التداخل والتمازج ولم يحدد لنا الإمام الغزالى حدًّا يفصل بين ما هو دينى، وما هو دنيوى!. النقطة الثالثة: مقاصد الشريعة لها مراتب ثلاث: المرتبة الأولى: الضرورات. المرتبة الثانية: الحاجات. المرتبة الثالثة: التزيينات والتسهيلات. هذه هى ملامح النظرية عنده أول ما ولدت، وسوف تتغير هذه الملامح كما تتغير ملامح أى مولود. ثانيًا: غفل الإمام الجليل عليه رحمة الله عن ذكر الدين كمقصد من مقاصد الشارع الحكيم، ولعله قصد بتقسيم المقاصد إلى دينى ودنيوى أن المقاصد الدينية تشمل حفظ دين الناس عليهم، والمقاصد الدنيوية تشمل الأربعة الأخرى، ولكنه لم يوضح ذلك صراحة أو حتى تلميحًا. ثالثًا: استفاد حجة الإسلام الغزالى من شيخه أبى المعالى الجوينى فأخذ عنه التقسيم الخماسى الذى ذكره فى البرهان، ولكن اختزله إلى تقسيم ثلاثى أكثر إحكامًا، وقد أصبح تقسيم مراتب المقاصد إلى ضرورات، وحاجات، وتحسينات عمودًا أساسيًا فى بناء نظرية المقاصد كما سيتضح بعد ذلك. رابعًا: نلاحظ أن إمامنا الجلل يربط المقاصد الشرعية، بالحدود الشرعية! والحقيقة أن فكرة التلازم بين الحدود، والضرورات، أو المقاصد، فكرة يتخللها الكثير من التشويش، وتحتاج الكثير من التنقيح، فهل كل ما هو ضرورى أو مقصود فى الشرع يكون الدليل عليه عِظَمُ العقوبة الجنائية؟ وهل عدم وجود هذه العقوبة دليل على عدم ضرورة هذا الأمر؟. خامسًا: هناك بعض الإيجابيات التى ذكرها الغزالى فى هذا الطور من أطوار النظرية، ولكنها للأسف لم تتطور كما تطورت باقى العناصر، بل نسيت فيما بعد، من قِبَل كاتبها الإمام الغزالى نفسه، ومن قِبَل غيره كذلك. وأهم تلك الإيجابيات ما ذكره بمقوله: «فرعاية المقاصد حاوية للإبقاء ودفع القواطع، وللتحصيل على سبيل الابتداء». فللأسف أصبح التركيز فيما بعد على جانب «الإبقاء ودفع القواطع» فقط، دون التفات إلى التحصيل ابتداء، فإذا ذكرت المقاصد الشرعة ذكر معها الكثير من الحدود والزواجر الجنائية، دون التفات إلى ما يقيمها من أسس تربوية! ولا أشك أن صياغة العبارة التى أشار بها الإمام الغزالى إلى جانبى «السلب والإيجاب»، فى رعاية المقاصد، كانت صياغة غامضة أو مضطربة، ساعد على ذلك عدم ذكره لأمثلة توضح ما يقصده، مما جعل الفكرة مشوشة أو لنقل: غير مكتملة، ولكنها أى هذه الإشارة الخاطفة - كانت تصلح بذرة أو نواة لكلام كثير لم يتطرق إليه حجة الإسلام الغزالى فيما بعد، وللأسف لم يتلقف هذه الإشارة من بعده من الأصوليين، بل كرروا ما قال كما سيتضح. سادسًا: لم يضع الإمام الغزالى حدًّا للضرورى، أو الحاجي، أو التحسينى، بل ترك هذه المصطلحات عائمة مبهمة. وسوف يتركها كذلك فى كتاباته اللاحقة، ولا يجوز أن يقال: قد وضحها بالأمثلة، لأن المثال لا يغنى عن التعريف. والحقيقة أن هذه المصطلحات الثلاثة لم تجد من الأصوليين مَن يشرحها أو يوضحها ويضع لها تعريفات محكمة الصياغة، لذلك لا نكاد نعرف الفرق بين الضرورى والحاجي، وبين الحاجى والتحسينى. فهناك مناطق كبيرة مشتركة بين هذه المصطلحات لا تمكن معرفة لأى قسم تتبع، وأهم سبب فى ذلك عدم وجود تعريفات دقيقة لهذه المصطلحات.