يجمع المراقبون على أن الإعلام له خطورة بالغة فى مرحلة التحول الديمقراطى خصوصاً فى الحالة المصرية. فقد كان الإعلام بكل أصنافه المقروء والمسموع والمرئى بل والإلكترونى يدور فى فلك النظام السابق ولذلك وافق النظام السابق مكرهاً على فتح نافذة صغيرة بمعرفة الأمن تضيق وتتسع بمعايير أمنية فى الإعلام الخاص، واتسعت هذه النافذة أحياناً حتى ظن الناس أن الإعلام الخاص يعارض الحكومة وبالغ الإعلام الخاص فى ذلك فأصبح الرئيس وأسرته مادة لهذا الإعلام تحت سيف النظام. وقد برر البعض نافذة الحرية الإعلامية المحسوبة على أنه سمح بها تحت الضغوط الخارجية ولكى يظهر النظام أنه ليس مستبداً مطلقاً، كما اقتنع النظام السابق بأن هذا القدر أو الهامش من الحرية الإعلامية مطلوب لتسريب البخار الناجم عن غليان الشعب بسبب الفساد وتدهور الأحوال فى مصر، بينما اطمأن النظام إلى أن إعلامه ورموزه الإعلامية يعملون وفق منظومة محكمة لصرف الشعب عن مساوئ النظام وتحويل جرائم النظام إلى فضائل يتم تسويقها للشعب. وكان واضحاً أن النظام قد ربى كتيبة كاملة شوهت المدرسة الإعلامية المصرية ورسمت نموذج الإعلامى المثالى فأصبح رئيس التحرير هو هذا النموذج الذى تنشأ الأجيال وترقى كلما كانت أقرب إلى منهجه وهكذا أصبح الإعلام أداة فاعلة فى نشر الخرافات وتسطيح العقل وبث الأكاذيب وتجهيل الشعب وتضليله وتقديم المواد التافهة لتسليته وانحطاط مستواه، وتضافر ذلك مع انحطاط الفنون والآداب والتعليم وتجريف الأخلاق وتغيّر منظومة القيم الأخلاقية مقدمة القيم السلبية على القيم الإيجابية وتصدر الإعلام عناصر ماهرة فى ترويج هذه القيم والدفاع عنها فانحط الإعلام فى أخلاقه وخطابه ولغته ووسطه. وقامت الثورة ولكن المنظومة الإعلامية العامة والخاصة التى روجت لفساد النظام السابق واستفادت منه تصدت للثورة لأنها لم تصدق أن ما حدث كان ثورة شاملة فتحول هؤلاء الإعلاميون جميعاً إلى ثوار ولكنهم حاربوا النظام الجديد حتى يقنعوا الشعب بأنه حدث طارئ وأن النظام القديم إذا قورن بحال النظام الجديد فإنه يفضله أمناً واقتصاداً وسكينة وانتظاماً فى الحياة دون أن يذكر للناس أن النظام القديم نخر الأعضاء الحيوية فى الأمة وأبى أن يغادر جسدها كالسرطان. ويضيق المقام عن تفصيل سلوك الإعلام المقاوم للتغيير ولكننا نذكر أبرز إسهاماته فى الهدم بذريعة حرية التعبير. فأصبح المواطن المصرى محاصراً بالإعلام المرئي والمسموع والمكتوب فلايجد مصدراً واحداً ينقل الحقيقة سواء من حيث الخبر الصحيح والتحليل الموضوعى والآراء المتنوعة بحيث أصبحت الصحف والقنوات الفضائية منصات لتضليل الناس وأشاعت الشك والبلبلة عبر كتائب من الكتاب والمتحدثين الذين يتكرر ظهورهم فى هذه الفضائيات بهذه الرسالة بل ان هذه الفضائيات ومواقع الصحف ترحب فقط بالمداخلات الداعمة لرسالتها بينما ترفض أى مداخلات مغايرة وذلك حتى تضمن تكريس الرأى الواحد. هناك ملاحم كثيرة استخدم فيها الإعلام من خلال الأكاذيب أداة لمحاربة النظام والتحريض عليه والتحريض على العنف ودربت مراسليها على هذا الفن وكان المثال الأبرز هو معركة الدستور حيث شنت المعارضة من خلال هذا الإعلام حرباً ظالمة ضد الدستور واخترعت أحكاماً لا نجدها إلا فى عقولها ورفضت رفضاً قاطعاً اجراء المناظرات وشيطنة الدستور والتيار الإسلامى واتهمت كل من يلتزم التحليل الموضوعى بأنه من الإخوان المسلمين وكأن الإخوان المسلمين شيطان مريد، وكان ذلك ضمن حملة الكراهية التى شنتها ضد الدستور. ترتب على ذلك أن المواطن المصرى قد حرم من الثقافة الدستورية الصحيحة كما حرم من معرفة الحقيقة فى هذا الدستور خاصة أنه لأول مرة يتعامل مع الدستور بعد أن شارك ممثلوه فى إنشائه. وقد انبرى عدد من أساتذة القانون لشيطنة الدستور واحتفى هذا الإعلام بهم احتفاء كبيراً وانفسحت أمامهم الشاشات واحتكروا الظهور كل ليلة أمام المشاهدين وكأنهم يحذرونهم من خطر عظيم. بل وصل الأمر فى عملية التلبيس والتزييف أن زورت نسخ الدستور ووضعت المواد التى تضمن رفض الناس له بل تجاسر بعضهم فأفتى بأن هذا الدستور مخالف للشريعة الإسلامية. فى ضوء هذا الجدل انقسم الشعب المصرى انقساماً كبيراً فأصبح المعارض للدستور يعادى من يقبله واستخدمت المعارضة كل الأساليب الإرهابية بالفعل والقول وتشويه الحقائق لكى تدفع الناس إلى رفض الدستور وهذا أعلى درجات الإضرار بهذا الشعب. ثم قام الإعلام بالتحريض على مناهضة الدستور ومناهضة الحاكم وقالت فى الدستور ما لم يقل مالك فى الخمر ومع ذلك وافق الشعب على الدستور الذى حشدت المعارضة لإسقاطه. أزمة الإعلام الحكومى والإعلام الخاص: أولاً : أزمة الإعلام الحكومى كان الإعلام الحكومى يجتهد فى تضليل الشعب وتزييف الحقائق حتى يسهل للحاكم المستبد أن يستقر وأن يتأبد، وسوف يسجل التاريخ أن الإعلام والأمن وسياسات الإفقار المادى والصحى والنفسى قد لعبوا دوراً كبيراً فى تأخير الثورة، ورغم ذلك لم تكن الثورة انفجارا وضيقاً وإنما كانت اجماعاً شعبياً وإلهياً وبطريقة سلمية على انهاء هذه الحقبة. ولذلك فإن أزمة الإعلام الحكومى الذى كان جزءاً اساسيا فى النظام السابق تتوزع بين أمرين، الأول هو أن يتحول الإعلام إلى النظام الجديد والثانى أن يصبح إعلاماً بنفس الفلول ولذلك فإن تحويل الإعلام إلى أداة مستقلة مهنية يحتاج إلى عملية جراحية. وقد سجلنا على هذا الإعلام ملاحظتين الأولى، هى الميل إلى نقد السلطة حتى لا يتهم الإعلام بأنه إعلام السلطة كما كان دائماً دون أن يفطن إلى الفارق بين إعلام الحكومة وإعلام الدولة، علماً بأن النظم الديمقراطية ليس لها إعلام خاص. الأمر الثانى، الميل إلى الحقيقة فيتهم أنه يمالئ السلطة ولذلك فإن الإعلام بحاجة إلى تحرير الخبر وإلى تنويع الآراء وتقديم المعلومة اللازمة لتكوين الرأى ثم تدريب الناس على أدب الأختلاف فى الرأى. ثانياً: أزمة الإعلام الخاص. نشأ الإعلام الخاص فى مصر على هامش سياسات التنفيس والديكور الديمقراطى وينطبق ذلك على الصحف والفضائيات. وكنا نتصور أن الإعلام الخاص يعمل فى هامش الحرية المتاحة وأن قيام الثورة سوفي يوسع هذا الهامش لصالح المواطن مادامت السلطة المستبدة قد طويت ولكن الإعلام الخاص فى هذه المرحلة خالطه أموال وشخصيات مرتبطة بالنظام السابق مما يجعل رسالته مركزة على إسقاط النظام الجديد بكل الوسائل فكانت تلك أكبر جناية على الحقيقة والمهنية والاستقرار وحق المواطن فى إعلام حقيقى وهادئ. ولذلك فإن إصلاح الإعلام الخاص ضرورة عاجلة بحيث يركز على المهنية دون أن نتطلب منه أى رسالة سياسية أخرى. وعلى كل حال فإن الإعلام بشكل عام هو عماد عملية إعادة بناء مصر الجديدة. وصفة الخروج من المأزق: لامفر من إصلاح الإعلام العام والخاص وإذا كان من السهل إصلاح الإعلام العام فإن إصلاح الإعلام الخاص يتطلب وضع ضمانات لحرية الإعلام وليس فقط لحرية الإعلاميين، بعد أن اختلط الأمر على سياسة القنوات الخاصة، ويتعين تدريب معدى البرامج ومراسلى القنوات وكذلك مقدمو البرامج على مراعاة ذلك. ويسبق هذا الإصلاح دراسة معمقة لأداء الإعلام الخاص. ومن ناحية أخرى فإن المسئولية الاجتماعية والوطنية تفرض على القنوات الخاصة أن تلتزم المهنية التامة وأن تكون هناك هيئة لمراقبة الأداء حتى لا يتم الأعتداء على حق المواطن فى المعرفة والإعلام الجاد الذى يقدم ثقافة نافعة وتوعية واضحة للمواطن بعد أن التهم الإعلام الفاسد عقله وذاكرته وانسانيته وتركه كالخُشب المسندة.