يعرف المتخصصون فى العلوم السياسية أن هناك فارقا بين الوعى السياسى والثقافة السياسية. فالثقافة السياسية هى المعرفة بالحقائق السياسية والاراء السياسية المرتبطة بها، ولكن الوعى السياسى أعلى مرتبة من الثقافة السياسية وهو لا يتأتى الا لنفر محدود من الباحثين والمتخصصين والمراقبين. والفرق كبير بين الحقيقة السياسية والأحداث السياسية، وبين الحقيقة والحدث تختلف الاراء السياسية ولكن المشكلة فى مصر الجديدة هى اختلاق الحدث وتقديم التفسير الشخصى له،وفى معظم الأحيان التفسير المتعسف للحدث السياسى وللحقيقة السياسية. وهذه منطقة خصبة للدارسين والباحثين خلال الأحداث التى عرفتها مصر منذ ثورة 25 يناير. ولتوضيح ذلك أشير إلى معركة الدستور الكبرى وكيف أصبحت معركة فيها الغالب والمغلوب وأحداث إراقة الدماء والمواقف السياسية المرتبطة بها حيث غاب عن الناس الثابت والمتحرك، الأصيل والمتغير، الحق والباطل، وهذه مرحلة تحتاج إلى جلاء وتوضيح عندما يكتب تاريخ هذه المرحلة، لأن هذه الأحداث هى أحد أسباب الانقسام الحالى بين القوى السياسية. والحق أن المواطن العربى عموماً بحاجة إلى ثقافة شاملة خاصة الثقافة الدينية والثقافة السياسية.والسبب فى إلحاح هذه الازمة سبب تاريخى ترتب عليه ما عانته مصر من استبداد وتزوير لارادة الشعب، وهو أن المصريين عموما دفعوا الى اغفال وظيفة العقل فى أخطر قطاعين هما السياسة والدين ما دام الفرعون كان ملكا الها فى نفس الوقت، فكانت النتيجة ان استراح الحاكم الى شعب بالغ الحاكم فى تجريف وعيه وتعليمه فأناب الحاكم نفسه عن الشعب فى الحكم والقهر ، كما استسلم المصريون الى التفسير الرسمى للدين فى زمن تم فيه استئناس المؤسسات الدينية حتى وصل الامر بأن كان شيخ الازهر عضوا فى الحزب الوطني. وبنفس القدر فإن السياسيين بحاجة إلى ثقافة دينية ووعى سياسى إذا توفرت لهم الثقافة السياسية. فهناك فرق بين الثقافة السياسية والوعى السياسى، فإذا كان الوعى السياسى على هذا القدر من الخصوصية عند السياسيين، فإنه أكثر خصوصية عند الدعاة ورجال الدين. بعبارة أخرى إذا فات السياسيين ما يتعين عليهم إدراكه فمن باب أولى يفوت رجال الدين الكثيرمن مظاهر الوعى السياسى .ونضرب لذلك مثالين لا نزال نعيش أثرهما ،الأول لسياسى لا يفتقر إلى الثقافة السياسية والآخر رجل دين لا يفتقر إلى حسن الطوية وسلامة المقصد. الأول هوذلك السياسى النابه الذى أطلق دعوته بترحيبه بعودة المصريين اليهود وتعويضهم عما فقدوا من أملاكهم باعتبار أن هروبهم والاستيلاء على ممتلكاتهم من مساوئ العصر الناصرى. هذا التصريح أثار قضيتين خطيرتين كان حزب الحرية والعدالة فى غنى كامل عن إثارتهما بهذه الطريقة وفى هذه المرحلة بالذات فى وقت يتعرض فيه الرئيس لحملة طاغية من التشكيك فى موقفه من إسرائيل والولايات المتحدة. القضية الثانية هى فتح ملف قديم كان يجب أن يطوى تماما هو العلاقة بين الإخوان المسلمين وعبدالناصر وهو ملف احتفظ به الناصريون والإخوان حتى الآن، والإخوان يرون ثأرا بينهم وبين عبدالناصر، والناصريون يرون أن الإخوان تأمروا على عبد الناصر وعلى ثورة 1952. أما الحالة الثانية فهى لداعية نابه سعودى محب لمصر حباً أثار غيرة المصريين كما كشف عار بعضهم لانه افاض فيما هو معروف من فضائل مصر وأهلها فى التاريخ الإسلامى وفى القرآن والسنة وناشد دول الخليج والعالم العربى والإسلامى أن تدعم مصر فى ظروفها الراهنة لأن ضعفها يؤدى إلى ضعف الجميع وقوتها قوة للجميع. ولكن الرجل_ فى غمرة حماسه لحشد الحجج للتدليل على فضائل مصر_ نسب إليها النبى موسى عليه السلام أى أن ظهور موسى فى مصر فى رسالته من أهم هذه الفضائل وكرر فى خطابه مصطلح النبى المصرى فى أشارته إلى النبى موسى عليه السلام .فقد خص موسى بالذات لأنه صاحب رسالة، فقد كان رسولا نبيا ولم يذكر هارون ويوسف ، وكلاهما تربى أيضاً مصر. الثابت أن موسى عليه السلام كان من بنى إسرائيل وهم يفخرون بذلك ولم تكن هناك جنسية فى ذلك الزمان حتى يحصل موسى على الجنسية المصرية، ولذلك فإن اعتبار موسى نبياً مصرياً يجافى الحقيقية القانونية، ونفس الوضع ينطبق على هارون وعلى يوسف رغم أن موسى تربى فى بيت فرعون ويوسف تربى فى بيت العزيز أى رئيس الوزراء فى ذلك الوقت ثم رفعه الملك إلى مرتبة سامية فى سلم السلطة فى مصر لكن الأخطر هو أن الأنبياء والرسل لا جنسية ولا وطن لهم لأن رسالتهم إلى البشرية كلها. صحيح أن محمد صلى الله عليه وسلم عربى فقد كرمه الله سبحانه بأن أنزل القرآن عليه باللغة العربية فكان ذلك تكريما للنبى وتشريفاً للغة وجعل هذه اللغة هى لغة أهل الجنة. ولكن اللافت أن القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً أن محمداً عربى بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد أن التقوى هى معيار التفاضل وليس العرب و غيرهم بقوله عليه الصلاة والسلام «لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى» وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام سلمان الفارسى من آل البيت الذين شرفهم الله فى كتابه الكريم وهم العترة النبوية الشريفة. ومن الخطورة أن ينسب الأنبياء إلى دول وإنما نسب الاقوام إلى الأنبياء فهناك قوم لوط وقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح وغيرهم من أنبياء الله، لأن العلاقة بين النبى أو الرسول ليست علاقة نسب مع دولة أو اقليم ،فالله سبحانه يعلم حيث يضع رسالته ،فهم من اختيار الله سبحانه وهم رسل هداية إلى أقوام ولكن رسولنا الكريم أرسل للناس كافة فلا يجوز أن ينسب الأنبياء إلى بلد أو إقليم، ولذلك حرص القرآن الكريم على ألا يصف محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه النبى العربى، ولكنه وصفه بأنه النبى الأمى ووصف قومه بالأميين «هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم» برسالة عالمية «هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله». ويتضح مما تقدم أن الوعى السياسى لازم للسياسيين لتجنيبهم الوقوع فى أخطاء قاتلة لا مبرر لها، ولكن هذا الوعى ألزم لرجال الدين حتى لا يختلط نقص الوعى السياسى بالضلال الدينى. فالوعى السياسى هو مراعاة متطلبات الموقف السياسى أى المواءمة السياسية، أما الثقافة السياسية فهى المعرفة المباشرة بالحقائق والأحداث السياسية، لأن عنصر الوقت والصياغة وطريقة النشر وغيرها من العوامل الخارجية تلعب دوراً حاسماً فى تكوين الوعى السياسى، وكلها مصطلحات تحتاج إلى المزيد من الشرح والإيضاح.