مصر المحروسة بعناية الله خلقها بصفات متفردة.. فهى ليست أم الدنيا فقط.. إنما هى كذلك أم الإبداع على اختلاف ألوانه وأشكاله أدبا وفكرا وعلما وفنا وحضارة وتاريخا.. ولهذا كله فلا غرابة أن تجد بين أبنائها أديبا متفردا أو مفكرا متميزا أو عالما مبتكرا أو فنانا فذا.. وهاهوذا الروائى العالمى نجيب محفوظ الذى راج أدبه بكل لغات العالم، وهاهوذا زكى نجيب محمود الذى استشرف بفكره الثاقب آفاق المستقبل وهاهوذاأحمد زويل الذى خدم البشرية بنظرياته العلمية غير المسبوقة وهاهىذى أم كلثوم التى أخرجت روائع أعظم شعراء العربية وأميرها أحمد شوقى من أرفف المكتبات إلى وجدان المستمعين على اتساع أمتنا العربية ومعهم كل من يتحدث العربية فى كل أنحاء العالم.. وهذه اللآلئ البراقة فى سماء الإبداع لا تعدو أن تكون أمثلة لا حصرا حيث تضيف المساحة بتعداد كل ما أفرزته مصر الغالية من مواهب مبدعة جعلت منها منارة للثقافة والتنوير ينهل من روافدها كل تواق إلى المتعة والمعرفة. ومن بين هذه الجواهر اللمَّاعة من أبناء مصر المبدعين يأتى أحدهم بصفات جامعة نادرة الحدوث لشخص واحد بعينه إلا من خصَّه الخالق الأعظم بها سبحانه وتعالى.. إنه أبرع من كتب التحليل السياسى مما جعل قامته فى هذا المجال لا يطالها ترب من أترابه حتى ممن كانت لهم صلات مباشرة بصُنّاع القرار فى عهود حكم مصر على اختلاف أزمانها وعبر تاريخها المعاصر.. وإلى جانب ذلك تقلد قلادة الأدب الروائى بمواصفات لم يقاسمه أحد ارتداءها وهنا يكمن الإعجاز الذى جعل منه معجزة إبداعية قلما تحدث عبر الأزمان الطويلة.. فهو صاحب التناول المتفرد فى كل رواياته حتى صار أسلوبه شائعا بين مقلديه من زملائه وتلاميذه. ولكن هيهات أن يصل منهم من يعتلى منصته الإبداعية حيث الحقيقة المؤكدة أن الموهبة الربانية تستعصى دوما على التقليد والمحاكاة.. كذلك كان الكاتب الكبير الروائى المتألق إحسان عبدالقدوس الذى نحتفل بذكرى رحيله الثالثة والعشرين هذه الأيام حيث فاضت روحه إلى بارئها فى أوائل يناير سنة 1990 ذلك الشهر الذى شهد مولده عام 1919 فى منزل جده لأبيه الشيخ رضوان أحد علماء الأزهر الشريف والذى تعود جذوره إلى قرية الصالحية بمحافظة الشرقية. أما والده فهو المهندس محمد عبدالقدوس والذى كان مؤلفا دراميا ثم ممثلا اضطلع ببعض الأدوار وأشهرها فى السينما حيث اتسم أداؤه باللون الكوميدى الذى شاع فى هذه الفترة.. وقد تزوج من السيدة فاطمة اليوسف إحدى رائدات المسرح فى ذلك الوقت والتى كانت تفتح بيتها لعقد الندوات الثقافية والسياسية بحضور الأعلام المعاصرين من كبار الكُتّاب والشعراء والساسة ورجال الفن. ووسط هذه البيئة المتناقضة نشأ الأديب الكبير إحسان عبد القدوس وقد كان لهذه البيئة الأثر الكبير فى تكوين شخصيته التى جمعت كل هذه المتناقضات بين الأجواء المحافظة فى بيت جده والأجواء المتحررة فى بيت والدته.. وقد استطاع إحسان عبدالقدوس توظيف هذه المكتسبات بشكل بنّاء جعل منه رائدا متفردا للفكر والأدب والفن وجامعا لألوان من الإبداع الرائع رغم تنافر كل ميدان من هذه الميادين فى معطياته وطريقة معالجته عبر مختلف الوسائط ووسائل الاتصال الجماهيرى. qqq وقد بدأ إحسان حياته محاميا وكانت تجربته فى هذا المجال فاشلة بكل المقاييس وفق ما سجله فى مذكراته مما جعله يهجرها بعد وقت قصير ليبدأ عمله فى بلاط صاحبة الجلالة مفجرا من خلال تحقيقاته ومقالاته كبريات القضايا القومية ويأتى على رأسها قضية الأسلحة الفاسدة مما جعل والدته السيدة روزاليوسف تكلفه برئاسة تحرير مجلتها الوليدة والتى تحمل اسمها. ولأنه يختار بعناية وفى جرأة غير مسبوقة ما يتناوله من قضايا فقد سجن قبل الثورة، ومن المفارقات العجيبة أنه رغم صداقته الوطيدة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقد سجن إحسان عبد القدوس مرتين بعد الثورة وفى عهد الرئيس السادات هددته مراكز القوى قبل ما سمى بثورة التصحيح فى مايو سنة 1971 بالقتل فى أكثر من محاولة جرت لاغتياله. ورغم المسئوليات الجسام التى نجمت عن توليه إدارة ورئاسة تحرير مؤسسة روزاليوسف بعد وفاة والدته فإنه قد تواكب عمله الصحفى مع عمله الإبداعى فى تواز محكم أسفر عن خمسين قصة تحول معظمها للسينما لما بها من ثراء درامى وأيضاً لموضوعاتها الشائقة التى ازدحمت بالتوابل التجارية التى تضمن النجاح الجماهيرى لأى فيلم سينمائى ومن المدهش أن يكتب السيناريو لبعض هذه القصص الكاتب الكبير نجيب محفوظ وذلك فى الوقت الذى لم يفعلها لإحدى رواياته وهذه شهادة تضاف إلى روعة أدب إحسان عبدالقدوس فى المجال الروائى.. وقد تحولت خمس روايات إلى نصوص مسرحية وعشر روايات إلى مسلسلات إذاعية ومثلها إلى مسلسلات تليفزيونية كان من أبرزها «لن أعيش فى جلباب أبى» ومن أشهر رواياته «أنف وثلاث عيون» و«لا تطفئ الشمس» و«لا شىء يهم»، وقد كان لمؤسستنا العريقة دار المعارف النصيب الأوفر فى نشر هذه الروايات ومنها «الهزيمة اسمها فاطمة» و«علبة من الصفيح الصدئ» و«العذراء والشعر الأبيض» و«نسيت أنى امرأة». qqq وكما لقى أدب إحسان عبد القدوس ذيوعا وشهرة نادرة الحدوث إلا أن هذا الأدب لقى أيضا هجوما حادا من النقاد حيث وصف بأنه أدب يبتعد عن العذرية حيث تناول إحسان فى رواياته موضوعات جريئة وبالغة الحساسية على عكس ما شاع من آداب فى هذه الفترة تتميز بالرومانسية والتحليق فى سماء المشاعر العاطفية الحالمة وقد اتهمه النقاد باضطهاد المرأة وتوصفيها بما لا يليق.. وقد كانت فى المقابل قناعة إحسان عبدالقدوس بما يكتبه حيث غاص فى أغوار النفس البشرية مجسدا لحظات ضعفها للرجل والمرأة على حد سواء، وقد وصف ذلك بأنه محاولة منه لتصحيح الاعوجاج الأخلاقى - إن صح التعبير - وليتخذ المشاهدون من النماذج التى يطرحها فى قصصه ورواياته العظة الواجبة والعبرة التى تقيهم شر الزلل.. ورغم ما يبدو من تحرر فى معالجات إحسان عبدالقدوس لما يطرحه من نماذج بشرية فى إبداعه الأدبى فإن ذلك يأتى معاكسا تماما لما يكتنف حياته الشخصية حيث وضع سياجا حديديا يحول بينها وكل وسائل الإعلام.. والدليل القاطع على ذلك أن السيدة الفاضلة زوجته لم تظهر فى أية وسيلة إعلامية وكذلك أبناؤه ومنهم زميلنا محمد عبد القدوس الذى لم يعرفه الناس إلا من خلال مقالاته الصحفية ونشاطه السياسى وميكروفونه الشهير وهنا يبرز أثر التربية الريفية حين كان طفلا فى منزل جده العالم الأزهرى. qqq إن إحسان عبد القدوس هو بكل المقاييس شخصية مثيرة للجدل ولم تزل حتى الآن لم تأخذ حقها فى البحث والنقد والتحليل كنوع من الإنصاف لهذا الرجل الذى كان وحده ظاهرة إبداعية دون سائر من احترف الكتابة الصحفية وكذلك الكتابة الأدبية.. فهل نأمل أن تعاد الصياغة النقدية لما أنتجه هذا المبدع الكبير بعد قرابة ربع القرن على رحيله.. ربما.