السياسة تفعل والاقتصاد يدفع الثمن!.. ليست هناك سياسة بلا اقتصاد وليس هناك اقتصاد بلا سياسة.. الاثنان وجهان لعملة واحدة.. لكن فى النهاية الاقتصاد هو الذى يتحمل فواتير السياسة!.. السياسة - هذه المرة - ليست موضوعنا وما يدور على الساحة السياسية وما يحتويه المشهد السياسى من صراعات وتناقضات وصدامات.. كل ذلك نبعده مؤقتا عن دائرة اهتمامنا ونركز على الجانب الاقتصادى.. الآثار الاقتصادية للمشهد السياسى!.. نفعل ذلك.. نبتعد مؤقتا عن السياسة ونركز على الاقتصاد.. حتى لا تختلط الأوراق وتتوه الحقائق.. لكى نعرف فى أى طريق نمضى وإلى أى مصير نسير؟!.. و الحقيقة أن المشهد الاقتصادى - بنظرة شاملة - يبدو مخيفا ومرعبا.. فبعد عامين تقريبا من ثورة 25 يناير نجد أن الأوضاع الاقتصادية تسير من سيئ إلى أسوأ!.. الاحتياطى النقدى انخفض من 30 مليار دولار تقريبا إلى أقل من 12 مليار دولار.. ونسبة التضخم زادت بشكل ملحوظ.. كما ارتفع سعر صرف الدولار إلى رقم غير مسبوق (620 قرشاً للدولار) بعد أن كان ثابتا ومستقرا لسنوات طويلة.. وتوقفت مصانع كثيرة وتعطل إنتاجها.. وزادت نسبة البطالة.. وتراجعت السياحة.. حتى قرض صندوق النقد الدولى الذى تتعلق به آمال الحكومة لتحسين الوضع الاقتصادى.. لا توجد بادرة أمل فى الحصول عليه!.. قرض الصندوق الذى تبلغ قيمته 4.8 مليار دولار والذى طلب البنك الدولى من الحكومة المصرية القيام بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية للحصول عليه.. والذى وافق البنك مبدئيا على منحه لمصر.. هذا القرض أصبح فى مهب الريح!.. فى إطار اتفاق مصر مع الصندوق قامت الحكومة بالإعلان عن تعديلات ضريبية تستهدف سد عجز ميزان المدفوعات.. بعد ساعات قليلة أعلنت مؤسسة الرئاسة إلغاء هذه التعديلات أو تجميدها لحين قيام حوار مجتمعى حولها.. الإعلان عن التعديلات الضريبية تم إلغاؤه فى ظل الأجواء المشحونة والتوترات القائمة سياسياً.. وقد اتفقنا أن نبتعد مؤقتا عن السياسة ونركز على الاقتصاد.. لكن فى النهاية الاقتصاد هو الذى يدفع الثمن.. فقد كانت النتيجة تجميد إجراءات حصول مصر على الدفعة الأولى من القرض وتأجيلها إلى أجل غير مسمى!.. وليس مستبعدا أن يكون تأثير السياسة على الاقتصاد فى مسألة القرض.. أبعد من ذلك!.. *** فهمنا من صيغة تجميد التعديلات الضريبية أنه سيتم تفعيلها مرة أخرى فى أعقاب الانتهاء من الاستفتاء على الدستور وبعد حوار مجتمعى تكون نتيجته إقرار هذه التعديلات.. لا أحد يعرف بالضبط كيف سيتم إجراء هذا الحوار المجتمعى وماذا ستكون نتيجته.. وليس فى استطاعة أحد أن يقدر بالضبط حجم غضب الشارع إذا تم تطبيق هذه التعديلات وارتفعت أسعار السلع المؤثرة كالزيوت والأسمدة والحديد والأسمنت وغيرها.. ومن المؤكد أن الحكومة ستراجع نفسها مائة مرة قبل تطبيق هذه التعديلات.. كل هذه الأمور سياسة وقد اتفقنا أن نبتعد مؤقتا عن السياسة ونركز على الاقتصاد.. وفى هذا الإطار نجد أنفسنا أمام حقائق ومخاوف. من هذه الحقائق أن الإعلان عن هذه التعديلات الضريبية ثم التراجع عنها خلال ساعات له تأثيراته السيئة على الاستثمار الأجنبى والمحلى.. وقد أعلن بالفعل عدد غير قليل من الشركات الأجنبية فى مصر والتى اطلعت على القرار.. استياءها الشديد مما فعلته الحكومة خاصة أنه ليس من المطلوب إجراء تغييرات مستمرة فى قوانين الضرائب التى تبنى عليها الشركات سياساتها المستقبلية لثلاث سنوات على الأقل. ومن المخاوف أن يؤدى فرض التعديلات الضريبية - إذا استطاعت الحكومة فرضها - فى ظل حالة الركود الاقتصادى التى تمر بها مصر إلى تأثر سيولة الشركات.. مما يؤثر سلبا على الاستثمار ويؤدى فى النهاية إلى نتيجة عكسية.. تراجع حصيلة الضرائب!. وبعد ذلك كله وربما قبله فلابد من الاعتراف بأن العشوائية فى القرارات الاقتصادية تؤدى لخلق مناخ غير مشجع للاستثمار. وفى كل الأحوال يدفع الاقتصاد فواتير السياسة!. *** قبل أكثر من أسبوعين قام وفد مصرى بعثت به مؤسسة الرئاسة بزيارة لأمريكا.. ومن المؤكد أن هناك أهدافا سياسية واقتصادية لهذه الزيارة. الأهداف السياسية ليست موضوعنا فقد اتفقنا أن نبتعد مؤقتا عن السياسة.. لكن فيما يتعلق بالأهداف الاقتصادية فمن المؤكد أن الوفد المصرى كان هدفه الحصول على دعم اقتصادى لمصر. ما تردد أن تطمينات الإدارة الأمريكية فى هذا الشأن كانت غير كافية نتيجة استشعار الإدارة الأمريكية بصعوبة الضغط على الكونجرس لتقديم مساعدات اقتصادية لمصر.. لأن الكونجرس غاضب مما يحدث فى مصر.. ولأن عدداً من نواب الكونجرس هددوا بالفعل بقطع الطريق على تقديم مساعدات لمصر.. ما لم تكن هناك ضمانة على تحول ديمقراطى حقيقى فى المجتمع المصرى. فى نفس الوقت أعلنت الحكومة الألمانية تأجيل خطط إعفاء مصر من الديون المقدرة بنحو 240 مليون يورو.. لأجل غير مسمى.. والسبب كما قالت الحكومة الألمانية هو الأوضاع المتوترة وغير المستقرة التى تعيشها مصر. المسألة لم تعد سرا فقد كشف مصدر مسئول بمجلس الوزراء أن الدكتور هشام قنديل رئيس المجلس أجرى اتصالات مع الجانب الألمانى وتلقى ردا بأن الحكومة المصرية فشلت فى الاستجابة لشرط الإعفاء من الديون وهو وجود برنامج إصلاح وخطوات جديدة نحو التحول الديمقراطى. الاقتصاد دائما يدفع ثمن السياسة!. *** ليس فى وسع أحد أن يتنبأ بالمشهد السياسى فى مصر فى أعقاب الاستفتاء على الدستور مهما كانت نتيجته.. هل ستستقر الأوضاع أم يتصاعد التوتر؟!. النبوءة الوحيدة التى يمكن الاعتماد عليها هى أن الاقتصاد سيدفع ثمنا فادحا إذا استمر المشهد السياسى على ما هو عليه. وأغلب الظن أن الثمن سيكون أكبر من قدرة مصر على تحمله!.