عديت على هذا الصرح العملاق الذى بناه الشعب من حر ماله لأجل الفقراء.. فأدركت أن هذا البلد لا يمكن أن ينهار أو يسقط أو ينهزم.. وبعدها بلحظات شهدت خناقة على أولوية المرور بين سائق ميكروباص.. وصاحب سيارة ملاكى ورأيت الفوضى تتجسد أمامى لا فرق فى ذلك بين متعلم وجاهل.. ولا كبير أو صغير. تسأل نفسك: هل هذا هو الشعب الذى قهر فرعون؟ أم أنه صانعه بالنفاق والتملق والأونطة.؟ هل نحن فعلا شعب حضارة وعلوم وهندسة وطب وسياسة؟ أم أننا مجموعة من الغوغاء؟ بلادنا هى خزانة الأرض كما جاء فى القرآن الكريم وكما ورد فى الكتاب المقدس.. إنها المباركة والمحروسة.. فمن حولها إلى خرابة ترفرف فوقها طيور والتعاسة وقلة الحيلة. بلاد قوامها الاعتدال فى المكان والمناخ.. ما الذى يأخذها صوب هذا التطرف والتشدد والحماقة. ما الذى يدفع ببلاد التوحيد الموحدة إلى الانقسام والانشطار على هذا النحو.. الذى نراه وأكدته أرقام الاستفتاء الأولية؟. كل شىء فى بلادنا موجود وبوفرة.. النظام إن أردت.. والفوضى متى شئت.. الذكاء المشتعل والجهل الرهيب.. والثراء الفاحش والفقر الدكر. عندك بحار وأنهار عظمى.. وجبال ومعادن وأودية وسهول وشمس ذهبية خالدة.. تأبى إلا أن تلقى علينا تحية الصباح طوال العام. انظر ماذا يقول عباس العقاد عن التقدم: مقاييس التقدم كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال.. فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم.. وإذا قسناه بالغنى.. فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم. وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة وتجّهل الأمم الوثيقة الغنية.. إلا مقياسًا واحدًا لا يقع فيه الاختلاف والخلل وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة فإنك لا تضاهى بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل فيهما هو صاحب النصيب الأدنى من المسئولية وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته وواجباته والاضطلاع بحقوقه.. ولا اختلاف فى هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والشيخ الوقور. فهل أنت.. وهل أنا.. وهل نحن جميعا من الذين يتحملون مسئولية أعمالهم وأفعالهم ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم الغير؟.. سأترك لك الإجابة كما أتركها لنفسى منعا للإحراج!! هل رأيت أحدًا فى هذا العالم يتمسك بالدنيا ونشيده اليومى «دلع نفسك» وفى الوقت ذاته يسعى إلى الآخرة.. وأجداده الفراعنة لهم فى ذلك أمجادهم فى الحياة بما شيدوا.. وفى الآخرة بما حنطوا.. فهل هذه هى ما يسمونها الشيزوفرينيا المصرية التى تعانى بين تمجيد الذات وجلدها فى نفس اللحظة؟. وفى ذلك حكاية بطلها توفيق الحكيم وقد حضر إليه صديق فرنسى طلب زيارة مصر.. واستضافه الحكيم على حساب مؤسسة الأهرام طبعًا وقضى الرجل أيامه فى زيارات للمعالم والآثار ويتجول هنا وهناك وكلما قاربت الزيارة من نهايتها سأله الحكيم: ما الذى أعجبك فى مصر؟! فقام الفرنسى إلى نافذة مكتب الحكيم وكانت تطل على شارع الجلاء ووقتها كان هذا الشارع الذى تقع به مؤسسة الأهرام يمر فيه الترام والمترو والتروللى وهو يجمع بين الأتوبيس من حيث الشكل وسنجة الترام الكهربائية طبعا إلى جانب وسائل المواصلات الأخرى بأنواعها.. الأتوبيسات والسيارات والعربات النقل والكارو واستغرب الحكيم من هذا التصرف لكن الخواجة الفرنسى شرح له مقصده قائلا: لقد رأيت بلادكم وطفت بها من أقصاها إلى أدناها.. وأرى أن هذا الشارع يلخص وجهة نظرى فى بلادكم من حيث المكان والإنسان.. فهذا الزحام القاتل المتشابك فى الشارع لم يمنع راكب الدراجة الذى يحمل فوق رأسه عدة أقفاص من الخبز الساخن.. ويقود الدراجة بدون أن يمسك بعجلة القيادة.. وفوق كل هذا يمضى فى الزحام يتلوى مثل البهلوان كأنه الأفعى والناس فى حالها لا تنظر إليه مندهشة ولا تعيره أدنى اهتمام.. ولو جرى هذا فى باريس لطلب أهل فرنسا نقل الرجل والدراجة والعيش إلى المتحف.. واعتبروه من المعجزات. وعلى جانب آخر كانت صحفية أمريكية تسأل من زاروا مصر عن أحسن ما فيها فإذا بهم يجمعون على أن ناسها هم كنزها فيهم ثراء البساطة وزهد الغنى وجلال التواضع.. وهنا أأخذك إلى الدكتورة نعمات أحمد فؤاد العاشقة المحبة لأم كلثوم والنيل وكل ما فى مصر.. حيث قالت: المصريون يعتقدون من قديم الأزل أن مصرهم هى أم الدنيا وأم الذوق وفى ذلك قصة بطلها رجل يقال إن اسمه «الذوق» كان فى منتهى الظرف والكياسة والكرم.. ازعجه الناس أكثر مما يحتمل فقرر أن يترك لهم البلاد ويرحل فلما وصل إلى باب الفتوح مات.. ودفنوه هناك وأقاموا له ضريحًا لأنه «سيدى الذوق».. لذلك قالوا فى الأمثال:(الذوق لم يخرج من مصر). فهل ما يزال فيها حتى ساعته وتاريخه؟! سؤال علينا أن نواجه به أنفسنا بلا خجل أو حساسية! يقولون إن الإنسان ابن طبيعته.. والطبيعة المصرية حنونة ولطيفة ومعتدلة لا تعرف بفضل الله الزلازل ولا البراكين والعواصف، حتى الصحراء المصرية تختلف عن باقى الصحارى فيها وداعه تبدد الوحشة. لقد كانت مصر رائدة فى حضارتها القديمة الأولى، ثم فى حضارتها المسيحية، ثم ثالثا الإسلامية.. واسأل الله أن يمتد بنا العمر لنرى الحضارة الرابعة التى تجمع كل ما سبق وهى تنظر إلى المستقبل بثقة واقتدار. الإنسان المصرى عندما يحزن يستقطب ألمه فى داخله.. ويستدير لكى يستعيد البناء والتعمير.. لهذا توحدنا المصائب والشدائد.. وترطب نفوسنا الأفراح. لهذا عليك أن تثق تماما بأنك إذا أردت أن تأخذ من المصرى أجمل ما فيه.. وتعيد تشكيله على أروع ما يمكن.. لا بد أن تبلغ به درجة الانصهار.. حتى تراه مرناً ليناً.. مطيعًا من غير استسلام.. قوياً بغير عنف.. واثقًا بلا غرور.. متديناً بلا رياء.. طموحًا بلا أطماع. جاء المستعمر وذهب كما جاء.. وظل المصرى على حاله أخذ من الرومان والأتراك والفرنسيس واليونان والطلاينة والعرب ما أخذ، ثم ضرب كل هذا فى خلاط شخصيته وأنتج الفخفخينا المصرية التى هى ماركة مسجلة باسمه.. قد يصل معك إلى قمة الغضب، ثم تبتسم فى وجهه فإذا به يأخذك بالأحضان كأنه الولى الحميم. قد يتنازل لك عن أغلى ما يملك بكامل إرادته ولا تضحك عليه أو تخدعه فى مليم أحمر (الجنيه ألف مليم) إذا أحبك كان لسانك الذى يتكلم ويدك التى تبطش وعينك التى ترى وربما قلبك الذى يعيش فى صدر غيرك. وإذا كرهك أو أغضبته لأتفه الأسباب.. جعلك حكايته فى الرايحة والجاية وقال فيك المواويل والأشعار وصنع منك أسطورة من المساوئ والعيوب.. من الممكن جدًا بعد جلسة صلح بسيطة وكوب شاى وعيش وملح أن تتحول فجأة إلى مزايا.. لهذا يسألنا الناس من حولنا: هى «البلد رايحة على فين»؟ ولا نملك الجواب الشافى الموافى.. إلا أن نقول لهم ولأنفسنا: إنها المحروسة المبروكة.. فهى فى حماية ربها وعنايته وما عند الله لا خوف عليه ولا يصح له أن يحزن.. فقولوا جميعًا يارب واعتصموا بحبله المتين يا مصريين.