ليس هناك أسوأ مما حدث يوم الأربعاء الدامى حول قصر الاتحادية إلا ما يمكن أن يحدث فيما بعد!. ما حدث رغم كل ما يمثله من قسوة وبشاعة يمكن اعتباره لحظة انتصر فيها الجنون على العقل وتغلبت فيها الحماقة على الحكمة.. ما حدث هو صدام توقعه كثيرون وحذروا من وقوعه بين مؤيدين مشحونين ومعارضين محتقنين.. لكن ما يمكن أن يحدث فيما بعد لا يمكن تصوره واحتماله.. ما يمكن أن يحدث هو الأسوأ بكثير!.. وهل يمكن أن نتصور ونحتمل أن يدخل نصف المصريين فى حرب ضد النصف الآخر؟!.. هل يمكن أن نتصور ونحتمل أن تملأ دماء المصريين مدن مصر وقراها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها؟!.. وهل هناك أسوأ من فتنة الدم؟!.. ليس هناك خلاف على أن ما حدث من تداعيات كان بسبب الإعلان الدستورى الذى أعلن من خلاله الرئيس محمد مرسى عدة قرارات اعتبرها الكثيرون انقلابا على القانون.. ثم مشروع الدستور الذى انتهت منه اللجنة التأسيسية فى يوم وليلة.. وصدور قرار جمهورى بالدعوة إلى الاستفتاء عليه. صحيفة "نيويورك تايمز" كانت فى الواقع من أوائل الذين تنبأوا بما حدث.. فقبل أن تنتهى اللجنة التأسيسية من عملها قالت الصحيفة: إنه إذا ما انتهت الجمعية التأسيسية الحالية من عملها.. وقام الرئيس بالدعوة إلى الاستفتاء على الدستور.. فإن مشروع الدستور الذى يتم تمريره من جانب واحد على الرغم من الاعتراضات والانسحابات الواسعة سوف يشعل معركة متصاعدة بين مؤيدى محمد مرسى ومعارضيه. وهكذا فإن ما وقع من أحداث مؤلمة حول قصر الاتحادية يمكن اعتباره نتيجة لحدثين اثنين لا ثالث لهما.. الإعلان الدستورى ومشروع الدستور.. وإن كان مشروع الدستور فى الواقع هو السبب الأهم والأكثر تأثيرا.. ذلك أن الإعلان الدستورى على الرغم من كونه السابق من حيث الترتيب الزمنى.. فإنه كان من الممكن أن يتآكل من تلقاء نفسه.. حيث كان مقررا اعتباره ملغيا عند إقرار الدستور.. وليس من قبيل المبالغة القول بأن الإعلان الدستورى كان معركة إعلامية أكثر منها معركة سياسية.. وأن الخلاف عليه وحجج كل فريق بالنسبة لهذا الخلاف.. كل ذلك كان سيسقط ويتآكل من تلقاء نفسه إذا ما تم إقرار الدستور.. ساعتها لن يكون هناك إعلان دستورى يختلف عليه المعارضون والمؤيدون.. لكن مشروع الدستور يختلف كل الاختلاف!.. اعتبر الكثيرون من المعارضين أن الهدف الأساسى من الإعلان الدستورى هو استباق قرار المحكمة الدستورية العليا بشأن حل الجمعية التأسيسية للدستور.. والتى يطالب كثيرون بحلها بسبب هيمنة الإسلاميين عليها.. الرئيس محمد مرسى نفسه أقر بأن أحد أهداف الإعلان الدستورى هو حماية مؤسسات الدولة - ومنها الجمعية التأسيسية - من التفكك والانهيار.. وهو ما يطيل أمد الفترة الانتقالية ويبدد فرص الاستقرار.. ورغم ذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل أن الطريقة التى خرج بها مشروع الدستور كانت فى حد ذاتها أحد الأسباب القوية.. إن لم تكن أقوى الأسباب.. لهذه المعارضة القوية لمشروع الدستور.. بعد الانسحابات التى شهدتها الجمعية التأسيسية خاصة من الأقباط ومن التيار المدنى.. وبعد أن تصاعدت أزمة الجمعية التأسيسية وبعد أن كان الرئيس محمد مرسى يهدد بتشكيل جمعية تأسيسية جديدة إن لم تنته من إعداد مشروع الدستور فى الموعد المحدد لها.. عاد الرئيس مرسى فمنح الجمعية التأسيسية مهلة شهرين كاملين لعلاج كل هذه الأزمات.. أزمة المنسحبين وأزمة التوافق على الدستور وأزمة الخلاف على بعض مواد الدستور.. وبدلاً من أن تستخدم الجمعية التأسيسية المهلة التى منحها لها رئيس الجمهورية.. راحت تسابق نفسها والزمن للانتهاء من مشروع الدستور!.. المسألة وصلت إلى درجة أن جلسة التصويت التى امتدت حتى مطلع الفجر - دون مبرر واضح- شهدت أفعالاً غير منطقية وغير مبررة.. منها مثلا ما حدث عند التصويت على إحدى مواد الدستور واعتراض 16 عضوا على تلك المادة.. فقد اعترض رئيس اللجنة التأسيسية المستشار الغريانى على هذه الاعتراضات وقال إن إصرار 16 عضوا على الاعتراض على هذه المادة يعنى تأخير موعد الانتهاء من مشروع الدستور 48 ساعة كاملة.. وقام بعدها بإعادة التصويت فإذا بالمعترضين أصبحوا أربعة فقط.. لا أكثر ولا أقل!.. وكان من الطبيعى أن تتزايد المخاوف والشكوك.. لماذا لم يمتد عمل اللجنة التأسيسية شهرين كما أعلن رئيس الجمهورية؟.. لماذا هذا الإصرار الغريب والعجيب على الانتهاء من مشروع الدستور فى يوم وليلة؟.. لماذا هذا التجاهل لحالة عدم التوافق الواضحة حول مشروع الدستور؟.. ثم الأهم من ذلك كله لماذا هذه التصريحات المتعاقبة من مسئولين وغير مسئولين حول التمسك بموعد الاستفتاء على الدستور وكأنه موعد مقدس؟!.. فى كل الأحوال يبدو مشروع الدستور وليس الإعلان الدستورى هو السبب الحقيقى والرئيسى لزيادة الاحتقان.. والذى بدوره أدى إلى وقوع الصدام.. مع الاعتراف بأن هناك أخطاء وخطايا أخرى!.. ارتكب الجميع خطيئة الاستفزاز ومن ثم زاد الاحتقان على الجانبين.. القوى المدنية التى أطلقت على نفسها التيار الشعبى أطلقت تصريحات يغلب عليها طابع الاستعلاء وامتلأت كلماتها بمعانى الإهانة لرئيس الجمهورية.. والقوى الإسلامية أطلقت تصريحات يغلب عليها طابع الاستهانة بالمعارضة والتقليل من شأنها وحجمها. ووقع الفريقان فى فخ المراهقة السياسية فانحصر الكلام والرؤى على المليونيات وحروب المليونيات. وتطورت الأمور أكثر وأكثر فصارت تحريضا على العنف.. ووقع ما وقع حول قصر الاتحادية بعد أن غاب صوت العقل واختفى صوت الحكمة.. وليس أسوأ مما حدث كما ذكرت إلا ما يمكن أن يحدث.. فالعنف لا يولد إلا العنف.. وقد رأينا كيف تحولت موقعة الاتحادية إلى مواقع أخرى تعرضت فيها مقار حزب الحرية والعدالة للاحتراق والتدمير.. ولن يبتعد الخطر إلا إذا أدرك الجميع أنه من المستحيل أن ينتصر فريق على فريق!.. الجميع بلا استثناء كانوا يتشدقون ويزايدون بمصلحة مصر التى يجب وضعها فوق أى مصلحة.. حان الوقت لكى تتحول الشعارات والمزايدات إلى واقع وحقيقة.. وإلا لن ينجو أحد من فتنة الدم!.