حضرت عشرات المؤتمرات والندوات واللقاءات فى مصر والخارج تناقش أثر وصول الإسلاميين للسلطة على القضية الفلسطينية، كما تناقش أثر الثورات العربية على هذه القضية أو على الصراع العربى الإسرائيلى عموماً. ودون الدخول فى تفاصيل الجدل حول هذا الموضوع، فإن الحقائق الثابتة فى الموقف هى التى تقدم الاجابة عن السؤال. الحقيقة الأولى هى أن الثورات العربية تحتاج إلى إيضاح وتحقيق، فالذى يجمع بينها دون صعوبة فى الإيضاح هو أن فيروس الحرية قد دخل المنطقة فصارت الشعوب لا تطيق الصبر على سيرة الحكم فى الفساد والتبعية والاستبداد ونهب الثروات وإفقار الشعب وحرمانه من الحرية والمشاركة فى تقرير مصير بلاده. وبصرف النظر عن مدى نجاح هذا الفيروس حتى الآن فى تحريك الشعوب فإنه يقينا دخل الجسد العربى وأثر تأثيراً ملحوظاً على ميزان العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بحيث صارت العلاقة تحت المجهر ولم يعد ممكنا للحاكم تجاهل ما حدث كما لم يعد ممكناً إعادة الشعوب إلى ما قبل عصر الثورات. الحقيقة الثانية، هى أن الظروف الموضوعية اللازمة لنجاح الثورة فى بلد، وتحقيق أهدافها بالكامل، لم تتحقق وربما كانت مصر وتونس الأقرب إلى النموذج النسبى الذى ألقى مسئولية التغيير على رموز الثورة الذين يملكون رؤية وقدرة تنظيمية للوصول إلى الحكم وإنشاء حياة سياسية تسمح بتداول السلطة عبر انتخابات نزيهة ولو بقدر من الانتماء الأيديولوجى، وهو عقبة سوف تختفى فى سبيل الانسياب الديمقراطى. أما فى اليمن، فالوضع يتحرك ببطء وبطريقة يتم التحكم فيها حتى لا تغادر السلطة مكان النظام القديم فى ممارسة مفتوحة للديمقراطية. وأما فى البحرين، فإن الانقسام الحاد فى المنطقة وفى البحرين بين الشيعة والسنة بسبب الصراع الإيرانى الخليجى عموماً والسعودى خصوصاً جعل البحرين أسيرة الصراع الإقليمى وقدمت المطالب الشعبية على أنها مقدمة لهيمنة إيرانية على السنة فى البحرين والمنطقة. وأما فى سوريا فإن الوضع أشد تعقيداً لأن الساحة السورية صارت ساحة حرب بين القوى الإقليمية وصار الطرفان المفترض أنهما رئيسيان: الشعب والسلطة هما أضعف الأطراف، ولذلك لا حل فى سوريا إلا إذا تم فصل الإطار المحلى عن الإطار الإقليمى والتوصل إلى تسوية لصالح الوطن وليس تسوية تعكس ميزان القوة بين المعارضة والسلطة. وبعد هذه المقدمة يمكننا أن نجيب عن السؤال الأساسى: ما هو أثر الثورات العربية على القضية الفلسطينة وما أثر وصول الإسلاميين فى مصر وتونس على هذه القضية؟ هذا يقودنا إلى الحقيقة الثالثة. وهى أن الشعوب التى قامت بالثورات هى نفسها التى تؤيد الشعب الفلسطينى ضد إسرائيل، وتؤيد جانب المقاومة ضد جانب السلطة، وترى أن السلطة هى نتاج لأوسلو لا يستقيم مع المقاومة، وأن هذه الشعوب كانت دائما ضد حكوماتها المؤيدة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية، وهى نفسها التى هبت عند محرقة غزة، وكان الإسلاميون فى المقدمة. والسبب فى ذلك هو أن هذه الشعوب ترى أن تحالف إسرائيل مع مبارك وبن على وواشنطن هو الذى سمح للاستبداد والفساد بأن يستمر، وأن معارضة التطبيع تسببت فى فتح السجون للمعارضين، خاصة للإسلاميين بسبب هذا الموقف رغم أنهم لم يكونوا تهديدا سياسيا لهذه الحكومات. يضاف إلى ذلك أن التيارات الإسلامية كانت تلقى الهوان بناء على توجيهات واشنطن وإسرائيل، ولم يكن الحكام العرب سوى سوط العذاب ضد هذه التيارات، وقد أبدعت هذه النظم فى فنون التعذيب لمن أرادت واشنطن انتزاع اعترافات مزورة منهم فى السجون السرية فى مصر وفى غيرها. فى ضوء ذلك كانت الثورة فتحا مبيناً للتيارات الإسلامية والتى قامت بها الشعوب عندما وصل الفساد والاستبداد لدرجة لا تطاق، ولكن الملاحظ أن اضطهاد الإسلاميين فى سجون الاستبداد لم تشعر به الشعوب العربية والتى ربما تأثرت بإعلام النظم المستبدة التى شوهت صورة الإسلاميين. ولكن المفارقة أن هذه التيارات الإسلامية هى التى دعت إلى العدل فى فلسطين استناداً إلى أسباب سياسية ودينية وصار الدعاء على اليهود فى مساجدهم أحد صور الجهاد ضد الحاكم المستبد المتعاهد مع إسرائيل. الحقيقة الرابعة، هى أنه إذا كانت الثورات العربية جميعاً معادية لإسرائيل وداعمة للخط المطالب بالحقوق الفلسطينية، إلا أن الموقف فى مصر يحتاج إلى فهم الظروف والأوضاع الاستراتيجية فى علاقة مصر بفلسطين وعلاقة مصر بإسرائيل من الناحية الإقليمية. ذلك أن غزة وسيناء كانا منذ عام 1948 هما أداة إسرائيل للتأثير على مصر. صحيح أن الإخوان لهم امتدادات معنوية على الأقل فى فلسطين وفى قلب إسرائيل ولهم تاريخ فى الصراع ضد إسرائيل، ولكن وضع مصر يجعل الرئيس الجديد محكوماً بهذه الأوضاع خاصة مع حالة التربص والاختبار التى تتخذها إسرائيل من مصر منذ ثورة يناير، وهى تأمل أن يغلب الحذر على الرئيس بحيث تستطيع إسرائيل أن تأمن جانب مصر فى فلسطين وأن تظل يدها طليقة فى التهويد والاستيلاء على القدس والاعتداء على غزة وسحق المقاومة ولا يعلم أحد مدى استعداد النظام الذى لم ينشأ بعد لكى يفرض نفسه كعامل مهم فى معادلات القوة فى الحسابات الإسرائيلية. وخلاصة هذه النقطة أن وصول الإسلاميين إلى الحكم فى مصر ينطوى على دعم معنوى ومادى محتمل لفلسطين، لكنه لا يمكن ترجمته فى هذه المرحلة بشكل ظاهر. الحقيقة الخامسة، هى أن المشهد السورى يضر ضرراً بليغاً بالقضية الفلسطينية من خمس زوايا على الأقل. الزاوية الأولى أن هذا المشهد أدى إلى تمزيق الفلسطينيين بين طرفى الصراع فى سوريا ذلك أن ملايين اللاجئين فى سوريا هم ضيوف على الشعب بقرار من النظام، فأصبح المسلحون يعتبرون اللاجئين أنصارا للنظام، ومادامت الصورة من الخارج هى أنه صراع بين الشعب والسلطة من أجل الحرية فقد كبر على البعض أن يساند النظام فى معركة الحرية، وكبر على البعض الآخر أن ينساق وراء الصورة الأخرى. الزاوية الثانية هى أن قيادة حماس فى دمشق نصحت الحكومة بما يلزم وأوضحت مخاطر القمع دون احتواء سياسى لا أمنى، وكانت محايدة ولكنها ضيف الحكومة فلما ساءت الأحوال غادرت سوريا، وكان ذلك مطلبا إسرائيليا تحقق من تلقاء نفسه كأثر من آثار المحرقة فى سوريا التى تتصل بها إسرائيل لاشك وهى فرصتها الذهبية لتصفية كل أطراف الوضع المناهض لها والمقاوم لمشروعها. الزاوية الثالثة أن المشهد السورى يؤدى كل يوم إلى تآكل أوراق المقاومة وتفاقم قوة إسرائيل مما يمكن إسرائيل من الانقضاض على المقاومة، كما أن ذلك يضعف كل ما تبقى من أوراق لدى السلطة، بل ربما أدى هذا الوضع إلى تركيز السلطة والاستيلاء على غزة حتى يكون الطرف الفلسطينى الوحيد هو السلطة مما يسهل على إسرائيل فرض التسوية التى تريد. الزاوية الرابعة، أن اللاجئين فى سوريا ولبنان يجدون عنتا شديدا بسبب امتداد ألسنة اللهب وفرز القوى داخل سوريا ولبنان مما يحرم المقاومة من قواعدها الفلسطينية المجاورة لإسرائيل، وربما أدى هذا الوضع إلى تغيير معادلة الحكم فى لبنان قطعاً ضد الصالح الفلسطينى خاصة إذا تدهور الوضع إلى حرب أهلية مدمرة كتلك التى اجتاحت لبنان خمسة عشر عاماً كاملة. وأخيراً، فقد زاحم السوريون الفلسطينيين فى اللجوء وضاق العالم العربى على رحابته. فى الحساب الختامى أضرت الثورات العربية فى المدى القصير بالقضية الفلسطينية، ولكنها على المستوى الاستراتيجى يمكن أن تكون فعالة فى تعديل كفة الصراع إذا لم تنجح مؤامرة إسرائيل فى كتابة السطور الأخيرة فى كتاب هذه الثورات.