كانا عاشقين جميلين، وفارسين نبيلين، وعلى الرغم من أنهما لاينتميان لجيل واحد ولا لوطن عربى واحد، فإنهما كانا صديقين صادقين، وقد شهدت مدينة الزقازيق المصرية ميلاد أولهما يوم 3 مايو سنة 1931 أما ثانيهما فقد شهدت قرية البروة فى فلسطين العربية ميلاده يوم 21 مارس سنة 1941 أى أن فارق العمر بينهما كان عشر سنوات، وقد رحل العاشق الأول عن عالمنا يوم 13 أغسطس سنة 1981 بينما احنضنت أرض رام اللهالفلسطينية جسد العاشق الثانى بعد رحيله فى نفس ذلك اليوم، ولكن بعد 27 سنة أى يوم 13 أغسطس سنة 2008 وإذا كنت قد أحببتهما معا، وسعدت بصحبة كل منهما، فإنى أتذكرهما الآن معا بكل ما فى القلب من حب ومن حزن. عرفت العاشق الأول – الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور، منذ أن كنت طالبا بكلية الآداب – جامعة القاهرة، وهى الكلية التى كان قد تخرج منها سنة 1951 وحين عرفته كان اسمه يتردد على ألسنة كل عشاق الشعر، لا فى مصر وحدها وإنما فى سائر أرجاء الأرض العربية، حيث كان ديوانه الأول – الناس فى بلادى – قد أثار عاصفة نقدية هائلة بمجرد صدور طبعته الأولى عن دار الآداب البيروتية سنة 1957 ولم تكن الساحة الأدبية العربية وقتها قد تقبلت شكل قصيدة الشعر الحر، فانبرى العملاق عباس محمود العقاد للتهجم بل للتهكم على هذا الشكل الجديد، وسماه الشعر السايب، بينما كتب المفكر الكبير الدكتور زكى نجيب محمود مقالا عنيفا بعنوان ما هكذا يكون الناس فى بلادي، وبعد هذا الديوان الشهير لصلاح عبد الصبور جاء ديوانه الثانى – أقول لكم – ليؤكد مدى عمق شاعرية صاحبه ومبدعه، ثم تتالت قصائد عديدة من إبداع صلاح عبد الصبور فى الملحق الأسبوعى الشهير لجريدة الأهرام، وهى القصائد التى اشتمل عليها الديوان الثالث – أحلام الفارس القديم – وكنت وقتها واحدا ممن يحفظون قصائد عديدة من هذا الديوان الرائع، وخصوصا قصيدة أحلام الفارس القديم التى يحمل الديوان عنوانها، وفيها يقول: ماذا جرى للفارس الهمام؟ انخلع القلب وولى هاربا بلا زمام وانكسرت قوادم الأحلام يا من يدل خطوتى على طريق الدمعة البريئة يا من يدل خطوتى على طريق الضحكة البريئة لك السلام لك السلام أعطيك ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة لقاء يوم واحد من البكارة صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنت أننا مفترقان وأننى سوف أظل واقفا بلا مكان لو لم يعدنى حبك الرقيق للطهارة أما العاشق الثانى – الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، فقد التقيت معه فى اليوم التالى مباشرة لوصوله إلى القاهرة، ثم تعددت لقاءاتى معه فى بيت كل من صلاح عبد الصبور ورجاء النقاش الذى كان يبشرنا بميلاد شعر المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيونى العنصرى الجاثم على تراب فلسطين العربية، وكان محمود درويش واحدا من شعراء المقاومة الفلسطينية، بل إنه كان أشهرهم جميعا، وكان معه سميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وحنا أبو حنا، ومع هؤلاء جميعا كانت الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، التى سبقتهم فى العمر وفى التجربة الإنسانية والشعرية. منذ تشكل وعيهما الإنساني، حمل العاشقان الجميلان – صلاح عبد الصبور ومحمود درويش - أعباء الكلمة الجادة والصادقة، وما أصعب ما حملاه وهما ينطلقان وسط حشود المتلونين وطوفان الأكاذيب، وكان الهم الذى يؤرق كلا منهما أن تكون الحياة أجمل وأفضل، وأن يعيش الناس فيها متحابين، وهم ينطلقون فى طرقاتها المتشعبة والمتنوعة، ومن هذا المنطلق يقول العاشق الأول: إن عذاب الإنسان الأكبر هو الفقر،ولكن الفقر ليس ناتجا من سوء توزيع الثروة فحسب، ولكنه ناتج من سوء توزيع الإنسانية، وفى عالم كعالمنا الحديث يتبدى هذا المعنى واضحاً حين نرى أن مشكلة الفقر قد تجاوزت نطاق الأفراد لتشمل نطاق الأمم، فمما لا شك فيه أن الصراع الآن لا يدور بين طبقات مختلفة، ولكنه يدور بين طبقتين مختلفتين من الدول، هما الدول الغنية والدول الفقيرة. أما العاشق الثانى فإنه يؤكد على شرط تحقق الجدوى من الكلمة، متمثلة فى الاقتراب الودود من عالم البسطاء: قصائدنا بلا لون.. بلا طعم.. بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت وإن لم يفهم (البسطا) معانيها فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت وحين يشير العاشق الأول إلى ما يحبه وما يكرهه، نسمعه يقول : إن أعظم الفضائل عندى هى الصدق والحرية والعدالة، وأخبث الرذائل هى الكذب والطغيان والظلم، وقد أدرك العاشق الثانى كل هذا إدراكا حياتيا فى ظل غياب العدالة، وهو الغياب الذى أفقده وطنه بعد أن سرقه منه الصهاينة المتجبرون، وهكذا ظل يتجاوب مع بكاء الكمنجات حين تتساقط دمعاتها وإيقاعاتها فى أعماق روحه وقلبه: الكمنجات تبكى مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس الكمنجات تبكى على العرب الخارجين من الأندلس الكمنجات تبكى على زمن ضائع لا يعود الكمنجات تبكى على وطن ضائع قد يعود حقا .. إن ما مضى من زمان لا يعود، لكن الحلم الشاحب الذى حاول هذا العاشق الجميل أن يتشبث به هو الحلم بأن الوطن – وطنه- قد يعود، لكن هذا الحلم الشاحب – بكل أسف – ظل يزداد شحوبا مع مرور الزمان الذى يمرق كالبرق، دون أن يعود ولو فى الخيال ! على امتداد حياة كل منهما، ظل العاشقان الجميلان يحلمان، وظلت صخور الواقع العربى المهين تتساقط – صخرة تلو أخرى – لتفتت الأحلام، وهكذا رحل كل منهما بعد أن أغرقتهما أمواج الأحزان.. رحل العاشق الأول – صلاح عبد الصبور- منذ إحدى وثلاثين سنة، بينما ظلت تتردد صيحته الحزينة : هذا زمن الحق الضائع ... فضلا عن نبوءته المدهشة والمذهلة، التى قال فيها: رعب أكبر من هذا سوف يجيء، أما العاشق الثانى – محمود درويش – فقد رحل عن عالمنا منذ أربع سنوات، دون أن يتجدد حلمه الشاحب بوطن ضائع، وإن كان - برغم اليأس الذى يجثم على النفس – قد ظل مؤمنا بأن فلسطين لن تتحول إلى أندلس ثانية، وبأن مصير أبناء فلسطين لن يكون تكرارا لمصير الهنود الحمر فى الأمريكتين، وبأن الكمنجات التى تبكى على وطن قد يعود، ربما تتوقف ذات يوم أو حتى ذات زمان عن البكاء!