هذه نماذج من عطاء نساء مؤمنات.. آثرن حب الآخرة على حب الدنيا، فقدمن من أنفسهن وأرواحهن كل غال حباً فى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ووفاءً منهن للإسلام الذى ينتسبن إليه. وهن بما قدموه ما هو إلا قطرة فى بحر العطاء الإنسانى للمرأة منذ خلق الله الأرض وما عليها.. وإذا كان الله قد اختص المرأة بالحمل والحضانة، فإن ذلك زيادة فى الفضل وفى التكريم لها. وقد عهد الله إليها أمانة عمار الكون، ولعل ذلك أبلغ تكريم وأبلغ رد على الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. ونبدأ الرحلة المباركة تصحبنا فى بدايتها.. أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، وهى سيدة قريش فضلا وجمالا ومالا. وهى إلى جانب ذلك ذات مكانة فى قومها لخلقها الرفيع.. توفى عنها زوجها الثانى.. ورغبت عن الزواج حتى لا تفجع بموت الرجل.. وقد أخذت حظها من الزواج.. فقد تزوجت قبل أبى هالة بن زرارة وأنجبت منه هالة وهندا الصحابى الذى عاش فى كنف الرسول صلى الله عليه وسلم. ولما مات عنها أبو هالة تزوجت من عتيق بن عابد المخزومى وأنجبت منه صحابية جليلة، ثم توفى هو الآخر. وتفرغت السيدة خديجة بعد ذلك للتجارة واستأجرت الرجال للقيام بأمر هذه التجارة حتى جاءها محمد بن عبد الله الذى قيضّ له الله أمر القيادة فى هذه الأمة.. وكانت تسمع عنه وعن أمانته. وقد خطبته لنفسها.. فأخذ أبو طالب رهطاً من قريش وذهب مع ابن أخيه إلى دار خديجة فخطبها من عمها عمرو بن أسد وأخيها عمرو بن خويلد. وقال أبو طالب: «الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وأهل معد وعنصر مضر. وجعلنا سدنة لبيته الحرام. أما ابن أخى محمداً فلا يوزن به رجل إلا رجحه شرفا وفضلا ونبلا وعقلا. وإن كان فى المال قل. فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مستردة». وأثمر الزواج عن ذريته الصالحة عبد الله والقاسم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. ولما أذن الله لمحمد بالرسالة قال لزوجته الحبيبة: لقد انتهى عهد النوم والراحة.. فقد أمرنى جبريل أن أنذر الناس. وأن أدعوهم إلى عبادة الله. فمن أدعوه؟ ومن ذا يستجيب؟ فقالت من فورها فى إيمان صادق: أنا استجيب يا رسول الله.. فادعنى قبل أن تدعو الناس.. وأنى لمسلمة لله.. مصدقة برسالتك.. مؤمنة بربك وكانت بذلك أولى المؤمنات.. وسيدة الإسلام والمسلمين الأولى. وخاضت مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترات الكفاح، وتركت دارها مختارة لتعيش مع المسلمين فى الحصار تجوع معهم وتقاسى شظف العيش، وهى سيدة نساء قريش وأكثرهم يساراً.. نحل الجسد وذوى العود النضر، ولم يبق إلا الإيمان يملأ عليها كل جوانبها.. ظلت على تلك الحال ثلاث سنوات حتى عادت إلى دارها بعد أن حطم المرض كل قواها.. وقسوة الحياة فى الشعب قد نالت منها.. فلم تلبث بعدها غير ثلاث ليال ثم تلقى الله. وكانت قبل وفاتها تقول لابنتها أم كلثوم: «ليت الأجل يمهلنى حتى تنجلى المحنة.. فأموت قريرة العين راضية».