كيف تربك الخصم؟!... ربما يكون هذا أحد أهم فنون عالم المخابرات والجاسوسية، والفن الذى يعتمد عليه نجاح تسعين فى المائة من عمليات التجسًَّس، التى تدور فى شتى أنحاء العالم بلا انقطاع، وطوال الوقت ... فلعبة المخابرات أشبه بمبارة قوية فى الشطرنج، بين بطلي العالم، كل منهما يدرك جيدًَّاً كل فنون اللعبة، وكيفية الاستفادة إلى أقصى حد، من حركة كل قطعة على الرقعة، وكل منهما يحاور ويناور، وهو يدرك أن الطرف الآخر يراقبه فى دقة، ويدرك اللعبة كما يدركها، وعليه أن يسعى لتشتيت انتباهه، وخداعه بحركات جانبية، حتى يلتف حول ذكائه، ويربح المباراة... وفى هذا الصدًَّد، تستطيع أن تقول: إن ألعاب عالم المخابرات تشبه ألعاب الحواة، عندما يضع الحاوى شيئاً فى يده أمام عينيك، ثم يحًَّرك يده فى سرعة، ويفتحهما فتجد أن ذلك الشئ قد اختفى، قبل أن يعود هو إلى إظهاره، فيبهرك بلعبته ... وطرق الإرباك والالتفاف فى عالم المخابرات هى فن ما بعده فن ... عندما يقوم جهاز مخابرات بعملية كبيرة مثلاً، وتحتاج إلى عدد من العمليات الفرعية لبلوغها، فقد يقوم فى الوقت ذاته بعملية لا تنتمى بصلة للعملية الأصلية، من خلال عملاء لا يمثلون له أهمية ذات شأن، ويسير فيها على نحو يمكن كشفه، بحيث يقوم بجذب انتباه العدو إلى هدف زائف، يرصده، ويسعى إليه، ويضع الخطط للسيطرة عليه، وينشغل به، مما يمنح جهاز المخابرات الأساسى الفرصة لبلوغ هدفه الحقيقى، من خلال العملية الأصلية، التى تدار بشكل جديد، شديد التعقيد والتركيب ... وفى أحيان أخرى، يتم تجنيد جاسوس، ليس بغرض الاستفادة منه، إنما بغرض كشفه، كتغطية لعميل آخر أكثر أهمية، ففى إحدى العمليات، خلال الحرب العالمية الثانية، دفع البريطانيون عميلاً المانياً إلى القيام بمهمة محدودة، ثم جعلوا عميلهم الأساسى يكشف أمره، بحيث يكتسب العميل الأساسى المصداقية، ويثبت أنه وطنى مخلص لبلاده ... فى تلك العملية، كان العميل الأقل شأناً هو الضحية، ولكن دعونا لا ننسى أن المخابرات البريطانية لم تتوًَّرع عن دفع (اليابان) إلى مهاجمة ميناء (بيرل هاربور) الأمريكى، والذى راح ضحية الهجوم عليه أكثر من ألف وخمسمائة شخص، وخسرت فيه (أمريكا) سبعين فى المائة من قطع أسطولها، فقط لتدفع (أمريكا) إلى دخول الحرب العالمية الثانية، بجنودها وأسلحتها ... اللعبة الأكثر فاعلية، فى فن المراوغة وإرباك العدو، هى عندما تكشف المخابرات جاسوساً قوياً، يثق العدو فيه وفى قدراته، وتدرك أنه ينقل إلى العدو معلومات بالغة الاهمية، ثم لا تلقى القبض عليه، إنما تستخدمه كوسيلة للإرباك والتشويش .. تماماً كما حدث فى حالة (إبراهيم سعيد شاهين) و (إنشراح على موسى)، اللذين جندهما الإسرائيليون فى (سيناء)، ثم ساعدوهماعلى الانتقال إلى (القاهرة)، خلال فترة ما بعد نكسة 1967م، وما قبل حرب أكتوبر 1973م ... وفور انتقالهما إلى (القاهرة)، بدأ الجاسوسان فى عقد عدد كبير من الصداقات، فى محيط سكنهما، وعدد أكبر من العلاقات، عبر عملهما وتجارتهما الوهمية، وخاصة مع بعض المجندين وعمًَّال المطارات؛ للحصول على البيانات والمعلومات، عن تحركات الجيش، وتسليحه واستعداداته، وسرعان ما كشف ابنهما الاكبر (نبيل) ما يفعلانه، مما جعله يطالبهما باقتسام التورتة، فزادوا من مصروفه، وطلبوا منه معاونتهم فى لعبة التجسًَّس، ثم سرعان ما ضما إليهما ابنهما الأصغر (محمد) أيضاً، لتتحوًَّل العائلة كلها إلى مستنقع خيانة كبير .. وعلى الرغم من أن (نبيل) قد بذل قصارى جهده؛ لجلب البيانات والمعلومات، حتى يثبت أنه مناسب للعمل، وحتى تمكنه المطالبة بمزيد من المال، فإنه ارتكب أكبر غلطة، يمكن أن يرتكبها جاسوس، فقد راح ينفق عن سعة، بما لا يمكن ان يتناسب مع دخل الأسرة ووضعها، مما جذب انتباه عيون صقور المخابرات المصرية، وجعلهم يتساءلون عما تفعله تلك الأسرة ... وفى منتصف عام 1972م، كشفت المخابرات المصرية اللعبة، وعلى الرغم من هذا، فهى لم تلق القبض على أى من أفراد تلك العائلة المسمومة.. لقد قرًَّر صقور المخابرات التعاون معهم، على نحو خفى، لكى يحوًَّلوهم من جواسيس، إلى سلاح ممتاز لإرباك العدو، ودفع المعلومات الخطأ إليه.. ولقد كانت سعادة (نبيل) غامرة، عندما التقى بأحد المجندين، الذين يقضون مدة خدمتهم على الجبهة، فعمل على توثيق صداقتهما، وبدأ يدعوه إلى المنزل، ويقضى معه سهرات خارجية أيضاً، وينفق عليه بسخاء، حتى يحصل منه على كافة المعلومات عن الجبهة واستعداداتها، وعن إجابة السؤال، الذى ظل يشغل (إسرائيل) طوال ست سنوات كاملة.. هل تستعد (مصر) لشن حرب ثأرية أم لا ؟!.. ولقد كان ذلك المجنًَّد ساذجاً طيب القلب، ما أن تلقى عليه مجرًَّد استفسار، حتى يثرثر بكل ما يعلمه دون تحفًَّظ، ولهذا عمل (نبيل)، وعملت الأسرة كلها على تقريبه منها، وضمان استمرار علاقته بها .. والواقع أن ذلك المجنًَّد الساذج الطيب البسيط، كان أحد رجال المخابرات العامة، والذى انتحل تلك الصفة؛ حتى يصبح عيناً للجهاز، داخل منزل العائلة المسمومة، وحتى ينقل إليهم بعض المعلومات الكاذبة، التى يدسًَّها بين معلومات صحيحة، تصل عبر جواسيس الاسرة إلى العدو، فيبنى عليها كل حساباته، مما يربك خطته، ويفسد معلوماته.. ولقد كان أهم دور قام به المجنًَّد الزائف، هو اقناع (نبيل) و(إبراهيم) و(انشراح) ، بأن كل شئ على الجبهة يوحى بأنه لا حرب قادمة، ولو بعد خمس سنوات.. ثم قامت حرب أكتوبر 1973م، وكانت صدمة عنيفة للإسرائيليين، أثبتت أن صقور المخابرات المصرية هم الأذكى والأبرع، والأقدر على استخدام وإدارة لعبة الإرباك والخداع والمراوغة... وبعدها بشهور قليلة، صدر أمر بإنهاء عملية (إبراهيم) و(انشراح)، فتم القبض على العائلة المسمومة، وصدرت الأحكام العادلة على من خانوا الوطن..هكذا تدور اللعبة ... وهكذا يكون الفن..فلعبة المخابرات لها قواعدها الكثيرة الصعبة.. وللجاسوسية أيضاً قواعد..ونظم.. فنون.