(كود الأملن) ليس كوداً سرياً معقداً، كما قد يتصوًَّر البعض، وإنما هو مجًَّرد عبارة بسيطة، يمكن أن تقال وسط حوار عادى، وتبدو متناسبة مع الحوار، ولكنها تنقل رسالة ما، متفق عليها مسبقاً، ففى إحدى الحالات مثلاً، كان الاتصال التليفونى، الذى يبدأ بكلمة (ألو)، يعنى ان المتصل يجريه مضطراً، وأنه واقع تحت سيطرة الخصم، وأن ما سيقوله بعدها، هو ما يمليه عليه هذا الخصم، او أن كل ما يقال مراقب ومسجًَّل، فإذا ما سمع الطرف الآخر كلمة (ألو) هذه، فعليه أن يستعد لهذا الموقف، ويدرك أن عميله تحت السيطرة ... وعندما تم كشف أمر الزوجين الجاسوسين (إبراهيم حسين شاهين)و(انشراح على موسى)، قبل حرب 1973م، لم يتم إلقاء القبض عليهما فوراً، على الرغم من نجاحهما فى عقد صلات مع جهات عديدة، إلى الحد الذى دفع الجيش الإسرائيلى إلى منحهما رتباً شرفية فى الجيش هناك، تحت اسمى (موسى عمر)و(دينا عمر)، ولكن المخابرات المصرية وضعتهما تحت السيطرة، دون أن يدركا هذا، ودست عليهما من المعلومات الزائفة، ما ساعد على استكمال خطة الخداع الاستراتيجى، وإيهام العدو بأننا غير مقبلين على الحرب، وفى الوقت نفسه، راحت المخابرات تسعى، من خلال عيونها فى قلب إسرائيل؛ لكشف كل ما يتعلق بهما، حتى أنه عندما ألقى القبض على (إبراهيم) وولديه، اللذين كانا شريكين فى لعبة الجاسوسية، فى يونيو 1974م، ثم على (انشراح)، عقب عودتها من لقاء مع المخابرات الإسرائيلية فى (روما)، فى أغسطس من العام نفسه، كان رجال المخابرات المصرية على علم تام بالكود السرى للاتصال الآمن، لذا فقد أجبروا (إبراهيم) على استمرار اتصالاته بزوجته وباللإسرائيليين، لأكثر من أسبوعين، دون أن يجرؤ على استخدام (كود الأمان) ولو مرة واحدة؛ لأن الرجال يعلمون به، وأخبروه عنه، قبل أن يبدأ اتصاله الأول... و(كود الأمان) لا يستخدم فى هذه الحالة فحسب، ولكن يستخدم أيضاً لإرسال رسالة مطمئنة إلى الجاسوس، إذا ما وقع فى قبضة العدو، وعند سماعها، يشعره هذا بشىء من الاطمئنان، ويمنحه بعض القوة، فى مواجهة الاستجواب، والعناد فى كشف الحقيقة، وهذا الكود يمكن أن يأتيه من خلال محاميه، دون أن يدرك المحامى نفسه خطورته، ودون حتى أن يتخيًَّل تأثيره، عندما يتلقاه من خلال من يوكله، عبر عبارة عادية، تطمئنه على أسرته، أو على صديق مقرًَّب، قد لا يكون له وجود فى الواقع... وبعد سقوط الجاسوس، وقضاء فترة طويلة فى استجوابه، واعتصار كل ما لديه من معلومات، والتيقن من صحتها، ومطابقتها لكل الادلة والقرائن، وتمشيها مع أسلوب الجهاز الذى جنده، تنتهى فائدة الجاسوس، بالنسبة لجهاز المخابرات، فيما عدا فائدة واحدة، لابد وأن يسبقها تقديمه إلى المحاكمة، مع كل أدلة ووثائق الاتهام، التى تضمن صدور حكم بسجنه، لمدة تتوافق مع مدى خطورته ...والأمر هنا يختلف، بين جاسوس من المجتمع نفسه، باع ضميره، وخان وطنه، وتجسًَّس لصالح العدو، وآخر من دولة أخرى، جاء خصيصاً؛ ليتجسًَّس على دولة، ويحصل على معلومات وأسرار منها، ففى الحالة الأولى، تكون الفائدة الأخيرة للجاسوس، هى فضح أمره، وفضح الدولة التى جندته، وإرسال رسالة إلى غيره، تقول: إن العيون المخابراتية يقظة، ولا تغفل عن حماية وطنها، أما فى الحالة الثانية، فلا يكون سجن الجاسوس هو الفائدة، وإنما قيمته، كسلعة فى سوق الجاسوسية، يمكنها أن تحقًَّق صفقة مفيدة للدولة، إذ أنه بعد اعتصار كل ما لدى الجاسوس من معلومات، وحتى بعد سجنه، لا يعود لوجوده هدف هام، إذ لم يعد لديه ما يعطيه، بل يصير عبئاً على الدولة، التى ستنفق الأموال لسجنه وحراسته وإطعامه، ولكن فائدته الكبرى تكون فى الصفقة، التى تجرى بشأنه، مع العلم بأنه هناك دوماً ما تحتاجه أية دولة، إما الإفراج عن آخرين محتجزين لدى العدو، أو الحصول على سلاح جديد، أو حتى صفقة مالية، لبناء اقتصادها القومى...فى السبعينات مثلا، وقع فى قبضة المخابرات المصرية جاسوس إسرائيلى، كان ضابطاً فى الموساد، يدعى باروخ مزراحى، ولقد أحضره ضابط مخابرات شجاع، من اليمن إلى القاهرة، فى مغامرة مثيرة، وتم استخلاص كل المعلومات الممكنة منه، وعندما يتيقن رجال المخابرات من أنهم قد حصلوا على كل ما يريدون، تطلًَّعوا إلى بعض رجال المقاومة فى سيناء، كان العدو قد ألقى القبض عليهم، عقب حرب أكتوبر مباشرة، وتم عقد صفقة مع الجانب الإسرائيلى، تم بموجبها استبدال باروخ، بعدد كبير من الأسرى المصريين، من بينهم مجموعة المقاومة الشعبية العريشية بأكملها، وكان هذا، فى نظر الجميع، صفقة استبدال ناجحة ... فعندما نسمع عن استبدال جاسوس ما، ينبغى ألا ننظر إلى الأمر بروح انتقامية، ونطالب بالقصاص؛ لأن أقصى ما يمكن أن يناله، فى أية دولة، هو السجن، بل ينبغى أن ننظر إلى الجانب الآخر... إلى أبناء الوطن، الذين سيتم استردادهم، مقابل ذلك الجاسوس، الذى لم يعد يساوى شيئاً بالمعنى الحرفى... وللحديث بقية