ماذا بعد إلقاء القبض على جاسوس ما؟... سؤال مهم جداً، يطرح نفسه على الساحة؛ ليبرز فنوناً أخرى، من فنون لعبة الجاسوسية، وحرب المخابرات، التى لا تضع أوزارها قط، فى الحرب أو السلم .. فكشف الجاسوس فن ... والإيقاع به فن ... وإثبات أنه جاسوس فن أكبر ... اما الفن الحقيقى، فيأتى بعد الإيقاع به بالفعل ... فالجاسوس هو شخص ليس عادياً، ولو أنه رجل مخابرات محترف، أو حتى عميل تم تجنيده، أو زرعه فى مكان ما، فهو مدرًَّب دوماً على المراوغة خلال الاستجواب، وعلى خطة أو عدة خطط احتياطية، وفقاً لدرجة ذكائه، وخبرته، وقوة تدريبية ... وعندما يتم الإيقاع به، وعلى عكس ما يحدث فى جهات الأمن الداخلى لأية دولة، تكون أدلة وقرائن اتهامه كاملة ومؤكًَّدة، وعلى الرغم من هذا فاعترافه ضرورة كبيرة؛ لأن ما يخفيه فى أعماقه، يكون دوماً أكبر مما تم التوًَّصل إليه وكشفه، واستخراج المعلومات الباقية منه ليس بالأمر السهل، إنما يحتاج إلى مزيج من الفن والصبر؛ لأن الجاسوس سيدلى بالخطة (ب) أوًَّلاً؛ عندما تواجهه بالأدلة والبراهين، وهى خطة ستبدو متقنة، وربما تتفق مع عدد كبير من الأدلة، وسيقاوم لوقت طويل، قبل أن يدلى بها؛ حتى يكسبها المصداقية اللازمة، لذا فسيتحتًَّم إرسالها إلى القسم الفنى، الذى يفحص ويدرس ويحلًَّل كل جزء وكلمة وحرف منها، قبل أن يخرج بتقرير يكشف زيفها، وهنا تتم مواجهة الجاسوس بما توًَّصل إليه القسم الفنى، فينتقل على الفور إلى الخطة (ج)، وتدور الدائرة نفسها مرة ثانية، وربما ثالثة ورابعة، لو أن هناك الخطة (د) أو اكثر، وفى النهاية، يدرك الجاسوس أنه محاصر بفريق من المحترفين، فلا يجد أمامه سوى الإدلاء بالاعترافات الصحيحة، التى تؤيدها تقارير القسم الفنى ... كل هذا لابد أن يتم دون اللجوء إلى أى نوع من الإكراه البدنى؛ لأن الإكراه البدنى يدفع الجاسوس إلى قول ما تريد سماعه، وليس الحقيقة، وهذا لا يتفق مع النظرية المعلوماتية التراكمية، اللازمة لعمل أى جهاز مخابرات، والتى إذا ماشابتها معلومة واحدة خاطئة، أدلى بها جاسوس واحد، تحت إكراه بدنى، يمكن ان تنهار منظومتها المعلوماتية بالكامل، مما ينجم عنه فشل ذريع، فى عدة عمليات تالية ... قيمة الجاسوس إذن، تكمن أوًَّلاً، فيما يمكن انتزاعه منه، من معلومات حقيقية، يمكنها أن تضيف شيئاً إلى المنظومة المعلوماتية المتراكمة، أو كشف بعض الغموض، الذى اكتنف أجزاءاً منها ... وبعد اعتصار الجاسوس، بغض النظر عن الوقت الذى يستغرقه هذا، لا تعود له فائدة تذكر، اللهم إلا توجيه رسالة إلى العدو، بأنه قد خسر هذه الجولة، وتم تقديم عميله أو جاسوسه للمحاكمة ... وهنا يتم سجن الجاسوس، فى انتظار بلوغ لحظة الفائدة الحقيقية له، وهى عملية تبادله مع آخرين، أو ربح صفقة مهمة بشأنه ... هنا فى الواقع تكمن الاهمية الكبرى، وربما الأساسية؛ لأى جاسوس يتم إلقاء القبض عليه، واعتصار كل المعلومات الممكنة منه ... فبعد سجنه، يصبح الجاسوس، مهما علا شأنه، مجرًَّد سجين عادى، يقضى مدة عقوبته، ويتحتًَّم على الدولة أن ترعاه صحياً وبدنياً، وأن توًَّفر له الرعاية .باختصار يصبح عبئاً عليها ... حتى تأتى اللحظة، التى لابد وأن تأتى، فى كل جولات حرب الجاسوسية بلا استثناء.... لحظة سقوط أحد رجالنا، أو احتجازه من قبل العدو، أو تعرًَّض العدو لضغوط شعبية شديدة؛ حتى يسترد جاسوسه، الذى هو بطل فى نظر شعبه ... هذا ينطبق بالطبع على الجواسيس الأجانب، وليس على الخائنين من بنى الوطن نفسه، والذين أسقطوا أنفسهم فى بئر التجسًَّس؛ فمن النادر أن تسلًَّم دولة مواطنيها لدولة أخرى، دون هدف قومى كبير ... وعندما يطالب العدو بجاسوسه، أو يسعى لاستعادته، يبدأ فن جديد من فنون لعبة الجاسوسية .... فن التفاوض، وعقد الصفقات ... فقبل حرب أكتوبر 1973م، نجحت (مصر) فى إسقاط رجل مخابرات إسرائيلى فى قبضتها، يدعى (باروخ زكى مزراحى)، وهو أحد المولودين فى (مصر)، وأكمل دراسته كلها فيها، ثم هاجر إلى (إسرائيل)، وعمل فى شرطة الآداب، وتزوًَّج وأنجب، ثم تم إلحاقه بالمخابرات الإسرائيلية... ولأنه يجيد اللهجة المصرية، تم إرساله فى مهمة إلى (أوروبا)؛ ليندس بين المصريين هناك، وينقل أخبارهم وتفاصيل حياتهم، وعندما نجحت مهمته هناك، تم إرساله إلى (اليمن)؛ لتصوير البوارج المصرية فى باب المندب، وهناك تم كشف أمره، وألقى القبض عليه، وسافر رجل مخابرات مصرى لإحضاره، وخاض مغامرات مدهشة، أشبه بروايات السينما؛ لإحضاره إلى (مصر)، والمخابرات الإسرائيلية تطارده فى شراسة؛ لاسترجاع ضابطها، أو حتى التخلًَّص منه، حتى لا يصل بكل ما لديه من معلومات إلى (مصر) ... فى ذلك الحين، وفى قلب (العريش)، كانت هناك مجموعة من الرجال، تعمل لصالح المخابرات المصرية، اطلقت على نفسها اسم (مجموعة العريش)، وكبًَّدت العدو خسائر فادحة، واستمرت تكبده، حتى قبيل حرب أكتوبر 1973م، مباشرة، وقامت بعدة عمليات عظيمة؛ لقطع خطوط مواصلات واتصالات العدو، خلال الأيام الأولى للحرب، إلى الحد الذى جعل العدو يكّثف جهوده وتحرياته، حتى أوقع بالمجموعة، عقب إعلان الهدنة ... كانت المخابرات، فى ذلك الحين، قد انتهت من تصفية كل المعلومات التى تنشدها، من (باروخ زكى مزراحى)، ولم تعد هناك فائدة أمنية تذكر، من استمرار سجنه فى (مصر)؛ لذا فقد تم عقد صفقة تبادل مع الإسرائيليين، استعاد فيها الإسرائيليون جاسوسهم، واستعدنا نحن فيها عدداً من أسرانا، وممن عملوا لصالح (مصر) فى قلب (سيناء)، وكان من بينهم (مجموعة العريش).... وعندما يعقد رجال المخابرات مثل هذه الصفقات؛ فإنهم ينظرون إليها باعتبارها وسيلة لاسترجاع رجالنا، وليست تساهلاً مع جاسوس للعدو، فرجالنا لهم الأولوية، مهما كان ثمن استرجاعهم، وهنا يكمن فن السيطرة على المشاعر، وضبط النفس، والثبات الانفعالى ... ولهذا فن مختلف.