بدأت علاقتى بالدكتور أنور عبدالملك فى أواخر الخمسينات. كنت وقتها طالبا فى جامعة الإسكندرية، وكنا قد أنشأنا فى دمنهور جماعة الأدباء التى كان يرأسها عبدالمعطى المسيرى الأديب صاحب المقهى الشهير الذى حوله إلى مدرسة لتخريج الأدباء والكُتّاب ومنتدى يلتقى فيه المثقفون فى دمنهور - وما كان أكثرهم فى ذلك الوقت - ويصل بينهم وبين كبار الأدباء فى القاهرة بحكم علاقاته القديمة معهم. كان يزورنا فى مقهى المسيرى يحيى حقى، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، وعبد الحليم عبد الله، وزكريا الحجاوى، وأمين يوسف غراب، ومحمد صدقى، وأحمد عبد المعطى حجازى، وغيرهم، واستضاف يوسف السباعى أدباء دمنهور ليقدموا إنتاجهم فى نادى القصة وكان يوسف السباعى هو السكرتير العام لنادى القصة والراعى الرسمى للأدب والأدباء فى مصر من خلال منصبه كسكرتير عام المجلس الأعلى للفنون والآداب أيضاً، ونظم لنا لقاء فى نادى القصة مع عدد من كبار الأدباء والنقاد الذين كنا نسمع أسماءهم ونقرأ لهم ونتمنى أن نلتقى بهم. فى هذا اللقاء قرأت قصة وقرأ صديقى بكر رشوان قصة أخرى وقرأ شاعرنا حسن قاسم قصيدة ومع التشجيع قام عدد من زملائنا بقراءة إنتاجهم، ويبدو أن هؤلاء الكبار لم يصدقوا أن أبناء الأقاليم يمكن أن يكونوا على مستوى كُتّاب القاهرة عاصمة الفكر والثقافة التى كانت فى ذلك الوقت مزدحمة بعشرات من العمالقة.. كان من بين الحاضرين الدكتور لويس عوض، والدكتور عبدالقادر القط، والدكتور على الراعى، ولم نصدق أن هؤلاء يمكن أن يجلسوا ليستمعوا لإنتاجنا ونحن مجموعة من الشباب المحب للأدب من تلاميذ عبد المعطى المسيرى. وبعد أن استمعنا إلى آراء هؤلاء الكبار، وكانت فى مجملها آراء مشجعة لنا، تقدم منى الدكتور أنور عبد الملك - ولم أكن أعرف اسمه ولا أعرف أنه مسئول عن صفحة فى جريدة المساء التى كان يرأس تحريرها خالد محيى الدين ويكتب فيها لطفى الخولى ويوسف إدريس ونجوم الأدب والفكر. وسألنى: هل قرأت تشيكوف؟ وأجبته: بصراحة لا (!) فقال لى بلهجة ودودة: هات القصة التى قرأتها وقابلنى غدا صباحا أمام مكتبة النهضة، ثم سألنى: معك فلوس؟ قلت له: معى. قال: إذن تعال فى الموعد. وفى الموعد تماما وجدته أمام المكتبة وأخذنى ليختار لى قاموس النهضة (جزءين) ومجموعة روايات وقصص باللغة الإنجليزية لأسماء لم أكن قد قرأت لها من قبل: تشيكوف، موباسان، بروست، وكتب وروايات مترجمة، ووجدت نفسى أدفع ما فى جيبى (تحويشة شهور) ولم يتبق معى إلا ثمن تذكرة القطار. فوجئت بعد أيام بقصتى منشورة على صفحة كاملة فى «المساء» فى الصفحة الأخيرة التى ينشر فيها يوسف إدريس قصصه. وكانت هذه نقطة تحول بالنسبة لى. كتبت إلى أنور عبدالملك أشكره. رد علىّ مشجعا وطلب منى أن أرسل قصة أخرى وفعلا أرسلت إليه قصة ووجدتها منشورة بعد أيام، وتواصلت الرسائل بيننا وفى كل رسالة يقدم لى نصائحه: ماذا أقرأ، وكيف أكتب، وكيف أحمى نفسى من الغرور الذى ينتاب كل من يجد اسمه منشورا فى صحيفة يقرؤها الناس.. وبين الحين والحين كنت أذهب إلى القاهرة لأحضر ندوة نجيب محفوظ فى كازينو بديعة بميدان الأوبرا القديمة وأرى فيها ثروت أباظة وعلى أحمد باكثير وعبدالحليم عبدالله وعبدالله الطوخى، وصبرى موسى، ورجاء النقاش، وعلى شلش، وغيرهم.. وبعد ذلك أذهب إلى أنور عبد الملك فى «المساء» ثم أعود إلى دمنهور. وهكذا توطدت العلاقة به وكان أستاذا لى أخلص النصح ووجهنى إلى قراءات أسهمت فى تكوينى، ولا أنس الدور الذى قام به الدكتور زكى العشماوى أستاذ الأدب والنقد فى جامعة الإسكندرية الذى لم يبخل علىّ بوقته وكتبه ونصائحه، والحقيقة أن عددا من أساتذة جامعة الإسكندرية كان لهم الفضل علىّ سأعود إليهم.. المهم أن علاقتى بأنور عبد الملك كانت بعد ذلك سببا فى متاعب لم أعمل حسابها، عندما بدأت حملة اعتقالات واسعة لكل اليساريين كان أنور عبد الملك مطلوبا ولم تعثر عليه المباحث، ولا أعرف كيف فكروا فى أنه يمكن أن يكون مختفيا عندى، وفوجئت بمن يقتحمون البيت، ويفتشون كل ركن فيه، ويقلبون الكتب والأوراق، ويأخذون بعضها، ولا أنسى علامات الرعب على وجه أمى وهى تنظر إلى وقد فقدت النطق! *** بعد ذلك عرفنا أن أنور عبد الملك استطاع الخروج وذهب إلى فرنسا، وغابت عنى أخباره، وبعد سنوات بدأت أعرف أنه صار أستاذا كبيرا فى علم الاجتماع والاستراتيجية السياسية وأنه مشهور دوليا فى الأوساط العلمية وأصبح عضوا فى الأكاديمية العلمية وله كتب وأبحاث باللغتين الفرنسية والإنجليزية.. ومنذ سنوات عاد إلى مصر وترجمت له بعض كتبه، وانتظم فى نشر مقال أسبوعى فى «الأهرام» وكانت القضية التى كرّس نفسه لها هى: «نهضة مصر».. وعادت علاقتى به، وقد كان خبيرا فى شئون الشرق الأقصى وخصوصا الصين، وكنت أنا أيضاً مهتما بالصين بعد أن زرتها أربع مرات ونشرت كتابا عنها فى دار المعارف بعنوان «رحلة إلى الصين» وكانت بيننا حوارات حول آفاق القرن الحادى والعشرين، كان الرئيس الأمريكى قد أعلن أنه سيكون قرنا أمريكيا، لكن أنور عبد الملك كان يرى أنه سيكون قرنا صينيا هنديا يابانيا وسيشهد تعددية قطبية بعد أن تنتهى مرحلة القطب الواحد التى سيطرت فيها الولاياتالمتحدة على قيادة العالم وأساءت إلى الشعوب ومارست «الامبريالية» بمعناها الحرفى.. كانت بيننا نقط اتفاق كثيرة جداً، ونقط خلاف صغيرة، ربما لأنى لم أصل إلى عمق رؤيته كاملة، ولكنى ظللت أعتبره أستاذى وصاحب الفضل علىّ. وما زلت أعود إلى كتبه وأبحاثه ومقالاته والغريب أننى أكتشف فيها الآن أبعادا لم أكن قد تنبهت إليها عندما قرأتها أول مرة.. أنور عبد الله مفكر اجتماعى واستراتيجى كبير، إذا أردت أن تفهمه وتستفيد منه وتوسع آفاق معرفتك بالعالم فلابد أن تقرأه أكثر من مرة.. وفى كل مرة سوف تفهم أكثر.