من بين الأزمات التى ما زالت تنهمر على المشهد السياسى وقبل أيام قلائل من الموعد المقرر لانتهاء المرحلة الانتقالية ما لم تحدث مفاجآت، حيث أكتب هذه السطور قبيل إعلان التشكيل الثانى للجمعية التأسيسية لوضع الدستور وعشية إصدار حكم المحكمة الدستورية بشأن قانونى العزل السياسى وانتخابات مجلس الشعب، أجدنى أتوقف منزعجاً أمام الأزمة التى تفجّرت مؤخراً بين مجلس الشعب ورئيس نادى القضاة باعتبارها واحدة من أخطر الأزمات وأكثرها إثارة للقلق الوطنى.فى تقديرى الخاص إن المستشار الزند رئيس نادى القضاة ومع كل الاحترام لشخصه ومكانته الرفيعة كقاض هو المسئول الأول عن إشعال وتصعيد الأزمة بعد تصريحاته السياسية العنيفة فى المؤتمر الصحفى الذى عقده لشن هجومه على نواب البرلمان الذين انتقدوا الأحكام القضائية التى أصدرها القاضى الجليل أحمد رفعت فى قضية مبارك وخاصة الأحكام بتبرئة نجليه وصديقه الهارب ومساعدى حبيب العادلى الستة. مع التسليم بمبدأ الفصل بين السلطات وعدم جواز تدخل أى من السلطتين التشريعية والتنفيذية فى أعمال وأحكام السلطة القضائية، إلا أنه يتعيّن قراءة هذه الأزمة فى ضوء أن نواب البرلمان لا يُحاسبون على أقوالهم وآرائهم تحت القبة استناداً على حصانتهم البرلمانية التى تضمن لهم الحماية القانونية اللازمة لممارسة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية دون أية مساءلة وتلك هى فلسفة وحكمة هذه الحصانة. وفى نفس الوقت فإنه يتعيّن أن يؤخذ فى الاعتبار حالة الغضب التى خيمت على الشارع المصرى وأسر الشهداء بعد الأحكام التى بدت صادمة إذ بينما أقرّت المحكمة بحدوث جريمة قتل المتظاهرين، فإنها أيضاً لم تتمكن من إدانة المجرمين القتلة، ولذا فقد جاء رد فعل النواب حاداً إزاء صدمة أحكام البراءة. ??? الأمر الآخر هو أن النواب فى البرلمان يمارسون السياسة فى المقام الأول، ولأن البرلمان الحالى هو الأول بعد الثورة فإنه بالضرورة برلمان ثورى.. يمارس نوابه عملهم وسط حالة ثورية تسود البلاد، ولذا جاءت أقوالهم وآراؤهم وانتقاداتهم تعبيراً عن هذه الحالة الثورية ودفاعاً عن حقوق المصابين ودماء الشهداء الذين لولا تضحياتهم بالدماء والأرواح ما كان هؤلاء النواب قد احتلوا مقاعدهم تحت قبة البرلمان. ثم إن غضب النواب كان انعكاساً وتكراراً لغضب الثوار وأسر الشهداء وعموم المصريين الذين أعادتهم تلك الأحكام الصادمة إلى ميدان التحرير وميادين المدن المصرية، فلماذا لم يصبّ المستشار الزند غضبه وتهديده للشعب المصرى؟! بل لماذا لم يعقب المستشار الزند على صيحات وهتافات عشرات المحامين وأسر الشهداء التى تعالت مدوية فى قاعة المحكمة فور انتهاء القاضى الجليل أحمد رفعت من تلاوة الأحكام والذين ظلوا يرددون: «الشعب يريد تطهير القضاء».. «باطل.. باطل» فى إشارة إلى الحكم. ??? ثم إن غضب النواب وانتقادهم للأحكام القضائية لم يكن موجها ضد القاضى ذاته أو ماساً بكرامته وقدره وهيبته، بل كان موجهاً ضد الأحكام، وأيضاً ضد جهاز النيابة العامة الذى أحال أوراق الدعوى خالية من الأدلة القاطعة على إدانة المتهمين الستة من مساعدى حبيب العادلى، كما وجه النواب الاتهام للمسئولين فى أجهزة الدولة لتقاعسهم عن البحث عن الأدلة ومعاقبة الذين تعمّدوا إخفاءها أو إتلافها، وهو ما يعنى أن انتقاد النواب كان موجهاً إلى السلطة التنفيذية قبل أن يكون موجهاً إلى أحكام القاضى أو السلطة القضائية. ولقد كان على المستشار الزند وفى سياق ما قال إنه دفاع عن القضاء والقضاة أن ينتقد النيابة العامة بسبب خلو أوراق القضية من أدلة الاتهام القاطعة وهو الأمر الذى استند إليه القاضى الجليل أحمد رفعت فى تبرئة المتهمين الستة، وذلك ليؤكد الزند حرصه كمواطن مصرى أولاً وكقاض ثانياً على القصاص العادل من قتلة المتظاهرين. ??? لقد كان حرياً بالقاضى الجليل رئيس نادى القضاة أن ينأى بنفسه عن هذا الهجوم شديد العنف ضد برلمان الثورة الذى دافع عن حقوق شهداء الثورة.. استشعاراً من سيادته للحرج.. حرج أن سيادته وحسبما يقول قضاة تيار استقلال القضاء محسوب على النظام السابق، وحرج أن سيادته لم يسبق له أن شنّ مثل هذا الهجوم العنيف على النظام السابق الذى ورّط القضاة فى الإشراف الشكلى على انتخابات سابقة تم تزويرها وسط اعتداءات إجرامية على بعض القضاة الذين حاولوا التصدّى للتزوير. ??? حديثى هذا.. ليس انحيازاً للبرلمان ونوابه ضد رئيس نادى القضاة، ولكنه فى حقيقة الأمر انحياز للثورة وشهدائها، بل لعلى لا أبالغ إذا قلت إنه انحياز فى المقام الأول لهيبة القضاء والقضاة وهى الهيبة والمكانة التى زجّ بهما المستشار الزند فى مواجهة غير مبررة مع البرلمان والثوار وأسر الشهداء. إن لغة الخطاب التى تحدث بها المستشار الزند فى مؤتمره الصحفى جاءت بعيدة كل البُعد عن لغة الخطاب القضائى الذى يتسم بالوقار والحكمة والهدوء، إذ غلب عليها الانفعال والتهجم الحاد وإلى درجة تهديد نواب البرلمان بملاحقتهم قضائياً وعلى نحو بدا انتقامياً وبما يتنافى تماماً مع الحيادية والعدالة. خطاب المستشار الزند جاء أيضاً سياسياً، إذ تحدّث كسياسى رغم أن القاضى لا يمارس السياسة، وهذه الممارسة السياسية هى ما أكدها بنفسه وحسبما جاء على لسانه حين قال محتداً سوف يمارس القضاة السياسة، وغفل سيادته عن أنه ممن يعارضون تيار الاستقلال داخل نادى القضاة وممن اتهموا هذا التيار بممارسة السياسة رغم أنهم يطالبون باستقلال حقيقى للسلطة القضائية. الأخطر من ذلك كله أن سيادته أعلن أن قانون السلطة القضائية المقرر إصداره لن يصدر من هذا البرلمان بل إنه أعلن أنه سيتم سحب مشروع القانون وهو ما يعد بالفعل تدخلاً فى أعمال السلطة التشريعية وتهديداً بالامتناع عن تنفيذ القانون من جانب رئيس نادى القضاة المنوط بهم تطبيق القانون. ??? مما يعد مدعاة للدهشة والقلق فى آن واحد أن المستشار الزند ينتوى إشعال أزمة أخرى داخل السلطة القضائية ذاتها بإعلانه تجميد عضوية القضاء الذين أبدوا آراءهم فى أحكام القاضى أحمد رفعت فى النادى، وهو توجه من شأنه إشاعة أجواء الانقسام والفرقة داخل الجمعية العمومية للنادى. لقد نصّب المستشار الزند نفسه رئيساً للسلطة القضائية فى افتئات على سلطة قاضى القضاة المستشار الغريانى رئيس محكمة النقض ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، وغاب عن سيادته أن نادى القضاة الذى يترأسه وحسبما أوضح المستشار زكريا عبد العزيز رئيس النادى السابق وأحد قيادات تيار الاستقلال.. مؤسسة نقابية مهمتها الدفاع عن حقوق ومصالح القضاة فقط. بهذا المفهوم القانونى والدستورى للسلطة القضائية فقد أحسن الدكتور الكتاتنى رئيس مجلس الشعب حين طلب من المستشار الغريانى إيضاحاً ورداً على مسلك المستشار الزند وتهجمه العنيف على البرلمان وتهديده للنواب. ??? يبقى أخيراً وضرورياً أن يتم نزع فتيل هذه الأزمة الخطيرة غير المسبوقة بين السلطتين.. التشريعية والقضائية المنوط بهما تحقيق الديمقراطية والعدالة، إذ أن استمرار الأزمة يؤدى إلى تصاعد حدتها وتحولها إلى صراع خطير.. يهدد الدولة المصرية كلها. N