كانت عندنا جارة... ربى... وأية جارة! لا تعيش إلا مع حمامها الأبيض وصورة زوجها المستشهد. ودعتها سنوات زادت على الخمسين، جمالها أنيق، عيناها تومض ضياء مريحا، شعرها تستره بمنديل من الحرير... يشكى الجيران أحوالهم بينما هى... تحمد، يلعنون... فتصفح، يصرخون فتهمس!. كنت أطل من وراء شباكى قبل الذهاب للمدرسة، أربط (مريلتي) بينما أتفرج عليها حيث تمد بكفيها المدورتين لحمامها الحب والطل يغشاها، تطعم بيد وبالأخرى تضعها فى العش فتخرج منه بيضتين، ثم تتأمل الطير وهو ينفض عن جناحيه قطرات الندى، ويرتفع لأعلى! أخطف كوب اللبن مسرعا، أهرول على السلم، شنطة مدرستى تلهج تحت يدى من لهفة اللقاء.. ترانى أمامها عندما تسحب جريدة الصباح، فتداعب شعرى الأسود، وتبث حولى أدعيه نورانية، ثم تدس يدها الطرية فى جيبى لتودعها.. مازلت أذكر يوم الغارة، تتخبط أقدامنا إلى المخبأ، تئز فى سمعنا طلقات المدفع، لن أنسى (تكتكة) الركبتين، وصراخ أختى الرضيعة على كتف أمى، ثم تدور أحاديث الجيران عبر بقعة ضوء مرتعشة، أبى يتحاور ثائرا فى شئون السياسة، شابان يتجادلان فى صحة هدف المباراة الملغى، لغط وحوارات تتهاوى هنا وهناك. أما الجارة فيبسم ثغرها بسمة صافية، وتلتم حولها نسوة العمارة، تبدأ كلامها باسم الله، فتمسك أول الحديث، تغزله فى دعابة، وتوصله بحكاية وراء حكاية، ثم تقطعها بآية!. وتنطلق صفارة نهاية الغارة، فتفتح لنا باب شقتها تدعونا للدخول، تعتذر أمى وتوعدها بالحضور فى يوم عاجل، نكمل صعود السلالم وأبى يقترب من أمى قائلا: «ما أطيب هذه الجارة». فى الصيف سافرت تزور شقيقتها، وانشغلت فى عطلتى، مع الأصحاب والشقاوة، لكن طالت غيبتها، يسأل عنها كل سكان العمارة. يقبل خريف تظلله كآبة، أطل على العش المقفول، أين يا ترى راح حمامها؟! ولما نست على الحبل منديلها الأحمر، يتطاير وحيدا، يترنح بين فكى المشبك؟! يجهدنى عبث الشوق فأسدل الستارة على أمل يوم تالٍ. أعود من مدرستى، تصطف فى وجهى أسياخ حديد بابها، كأنها تتحدى.. أصعد لشقتى كسير النفس، همى يدفع رأسى لأسفل، تفتح لى أمى وتغمزنى، فأنظر وراءها، ويزغرد قلبى ها هى ذى أمامى، أغمض عينى وأنتشى بحنان ضمتها، هتفت طربا فى جهرى وسري، تلثم خدى بقبلة فأردها لها قبلتين، توسلت الزمن أن يتوقف، تشرح لها أمى حالى أثناء غيابها، فتزيد لى من دفء الضمة. تعود لشرفتها يرخى الحمام جناحيه، يطير مترنما لحن العودة، يتألق على السحاب، يشكل خطوطا تتدلل، بينما أختلس من وراء الزجاج جمال المشهد. وتتدحرج الأيام، يطوى العمر صفحة، تتراكم المتغيرات، ونرحل لبيت آخر جديد ولكنه بعيد جدا.. بعيد.. عن بيتنا القديم. صرت شابا يزين وجهى شارب كثيف، صوتى تخشن، ينبت الشوك بذقنى، تتحور الأحاسيس الأخرى، علمنى زمانى تعاطى الدخان الأسود، هويت فى نار الغرام، أعبث مثل غيري، ألهو معهم وأولع ببريق الشهوة، وصرت أجيد صفرة الابتسامة. لكنى لم أقتل بعد وميض الذكرى، ذكرى أول أيامي، وأعاتب أمى:- - سبعة أعوام يا أمى ولم نبادر بالزيارة؟! يزعق حنينى الآن لرؤيتها، قطعت زحام الطريق وطول المسافة، أقترب من شقتها، وأحلم بالموعد، لأزفر عندها الآهة، أفتح شرفتها، وأتحسس ريشة الحمامة.. عبرت الرصيف يسبقنى وجدي، دخلت من باب العمارة المخلوع، وقفت أمام شقتها، لكن لا أحد يفتح!! هاجت سكناتي، ارتجف أصبعى فوق الجرس، ينقبض صدرى بهواجسى المرة، لكن لا... أسمع الآن وقع خطواتها، وتفتح لى.. فأكاد أسبح!. تتهلل لرؤيتى، تستقبلنى بالبسمة، تسكب علىّ بحور الفرحة، هى كما هى لم تتغير، لم يقدر الزمن على بهاء جواها، تنطق باسمى وكأنها تتغزل، وتعتذر لى بالأهداب المبتلة:- آسفة على التأخير.. كنت أتوضأ. بقلم : حسام نور الدين