نشأت الموسيقى قبل أن ينشأ العلم والفلسفة، وقادت الإنسان لإدراك العلم والفلسفة، ومن ثم الوصول إلى الإيمان، وقد استوحت الروح الإنسانية الموسيقى منذ قديم الأزل من الطبيعة وظواهر الكون، ثم أصبحت القوة الجبارة القادرة على أن ترجع فى نفس الإنسان صدى الذكريات والحنين وتحرك فيه شتى العواطف والمشاعر والأحاسيس، وتلهب خياله بسويعات الفيض الصوفى والسعادة الروحية الشاملة. وكان الشعر والموسيقى فنا واحدا عند قدماء المصريين، وكانت الحكاية تُحكى بالشعر الملحن، وكان الموسيقيون هم الشعراء والخطباء والمؤرخون يحترمهم الشعب ويلقيهم بالحكماء، وأحياناً بالأنبياء وتراجمة الآلهة، وكان المصريون يفضلون نشر العلوم من خلال الغناء الشفهى حتى بعد أن تم اختراع الحروف الهجائية، وقد اكتشفت مؤخرا فى وادى الملوك أول مقبرة لسيدة ليست من الأسر الحاكمة، وكانت لمطربة اسمها تحمس باستيت، وبدل هذا الاسم على أنها عاشت وماتت فى رعاية الإله باستيت. ونحن شعوب شفهية تحب الكلمة وتقدرها وتعتمد عليها اعتمادا كاملا فى التعبير عن الذات ومع الآخرين، والموسيقى عندنا تعنى الغناء على عكس ما هو قائم فى العالم العربى الذى عرف قوالب الموسيقى البحتة أو الصماء وأبدع فيها وأصبحت لها منزلة تفوق منزلة الغناء، فالغناء هو أكثر الأشكال الفنية التى عبر بها الإنسان، فقد ارتبط بدورة حياته فى العصور القديمة والمناسبات المختلفة ولا يوجد إنسان لا يقدر على الغناء ولا يحفظ بعضا منه شفاف قلبه وتهتز له مشاعره أو يطرب له، وتشترك الأغنية مع مؤثرات أخرى وأشكال فنية كثيرة فى صياغة الوجدان والعواطف والأفكار، وقد ظلت الأغنية والحدوتة والمثل الشعبى وغيرها من أشكال التعبير الفنى قادرة على القيام بالوظائف التى تقوم بها الهيئات العلمية والثقافية فى مؤسسات كبييرة فى المجتمعات الحديثة من أجل نشر الثقافة وتعليم الناس ما يريد لهم المجتمع أن يتعلموه، وحملت الأغنية الشعبية قيم المجتمع وعبرت عن ثقافته وعكست عاداته وتقاليده ونقلت خبراته وتجاربه وارتبطت بحياته منذ الميلاد إلى الموت، وكان لها دور بارز فى المجال الدينى والعاطفى والوطنى ودعت أبناء البلد للدفاع عن بلدهم ضد أى معتدٍ، وقامت بدور بارز فى الحركة الوطنية، وأرَّخت للوطن فأصبحت الأغنية ديوان الحياة فى مصر منذ ثورة يوليو 1952. ارتبط المصريون بالغناء، وظهر فى أمثالهم العامية بكثرة، فتسمعهم يقولون:(هياخدنا فى دوكاه) والدوكاه اسم نغمة موسيقية ومقام عربى، و«زى الطبل صوت عالى وجوف خالى»، و«زى الطبل الأعمى»، و«طول ما أنت زمار وأنا طبال.. ياما راح نشوف م الليالى الطوال»، و«زى الطبل منفوخ ع الفاضى»، و«حتطبل على دماغه»، و«اللى ما ينفع طبله ينفع طاره»، و«قالوا للجمل زمرّ.. قال: لا شفافيف ملموسة ولا صوابع مبرومة»، و«يموت الزمار وصباعه بيلعب»، و«الندب بالطار.. ولا قعدة الراجل فى الدار»، و«إن جاعوا زنوّا... وإن شبعوا غنوا».. وغيرها. ويرى المفكر الإسلامى السودانى محمود محمد طه فى كتابه «الإسلام والفنون» أن الموسيقى اسمى الفنون وأعلاها وأقدمها وهى اللحن العلوى الذى تحرك فى سلمه السُّباعى (السلم الموسيقى سبع درجات) ليحكى منازل الإنسان فى طريقه للاغتراب، ثم فى طريقه للرجوع إنها الحركة التى قال عنها الله تعالى فى كتابه العزيز: چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?چ (سورة التين). ويرى الكاتب أن الآيات صورت «الاغتراب» فمرحلة البعد والقرب بالسلم سُباعى مرحلتها الحى.. العالم.. المريد.. القادر.. السميع.. البصير.. المتكلم، أما المرحلة الثانية لها فهى الحواس السبع (القلب - العقل - السمع - البصر - الشم - الذوق - اللمس) والمرحلة الثالثة هو النفوس السبع (الكاملة - المُرضية - الراضية - المطمئنة - الملهمة - اللوامة - الأمارة) ومرحلتها الرابعة هى الأيام السبعة (السبت - الأحد - الاثنين - الثلاثاء - الأربعاء - الخميس - الجمعة) ومرحلتها الخامسة الأراضى السبع (الأولى - الثانية - الثالثة - الرابعة - الخامسة - السادسة - السابعة) فهل الموسيقى حرام؟ سؤال قديم قدم تاريخ الإسلام، يتجدد فى عصور التراجع الحضارة والثقافى والفكرى، وحاولنا أن نصل لإجابة، نسأل الله أن يهدينا ويهدى بنا وأن يعلمنا وأن يعلم بنا، إنه نعم المولى ونعم النصير. [email protected]