يبدو أن الأمريكان ليسوا بالذكاء الذى كنا نتصورهم به، وليسوا هؤلاء المخلوقات السوبر كما صورتهم لنا الدراما الخيالية لهوليوود.. وفى المقابل فالمصريون ليسوا بهذا الغباء الذى يتصوره الأمريكان وتصدر على أساسه تصرفاتهم تجاه هذا الشعب.. وبناء عليه فإن المسألة المصرية تحتاج إلى مراجعة فورية على الجانب الأمريكى، قبل أن تخسر أمريكا ما تبقى من أسهمها فى مصر، إن لم يكن على المستوى الرسمى فعلى الأقل على المستوى الشعبى بعد أن ينفد ما تبقى من صبر المصريين تجاهها بسبب تدخلها السافر والسافل فى شئون مصر وتورطها الواضح فى مخططات هدم الدولة المصرية وتفكيكها.(1) فى الوقت الذى خرج فيه قاضيا التحقيق المستشاران أشرف العشماوى وسامح أبو زيد الأربعاء الماضى (8 فبراير) يعرضان بعض الحقائق التى توصلا إليها فى قضية التمويل الأجنبى للمنظمات والجمعيات الأهلية، فى نفس هذا اليوم تقريبا تراص المئات من أبناء بورسعيد الذين يمثلون عددا كبيرا من الائتلافات والحركات والأحزاب السياسية ومن غير المنتمين لأى فصيل سياسى من أبناء المدينة ليصنعوا كردونا بشريا أمام مبنى هيئة قناة السويسبالمدينة، ردا على منشور وصفه البورسعيدية ب «السرطانى» كان قد انتشر فى ربوع المدينة قبلها بيوم يحمل دعوة لاحتلال قناة السويس (!!) فهل يمكن لمصرى أن يدعو لارتكاب جريمة - مثل هذه - ترقى لجرائم الخيانة العظمى؟! المنشور يقول إن أصحاب الدعوة لهذه الجريمة هم أبناء المحافظات الأخرى من خارج بورسعيد.. فمن يمكن أن يصدق هذا؟! وقد تبدو لعبة المنشور صبيانية، وربما تذكرنى أنا شخصيا بما وعيت عليه أيام حرب أكتوبر من ملصقات الشئون المعنوية للقوات المسلحة التى كانت تحذر المواطنين المصريين فى رسائل مباشرة ورسوم توضيحية بسيطة من الشائعات الكاذبة ومنشورات العدو التى كانت تلقى من الجو بطائرات الأعداء على مدن الجمهورية وخاصة مدن القناة الباسلة قبل أن تقيم مصر حائط الصواريخ وتحمى من خلاله سماء الوطن. لكن يجب ألا نستبعد تصور أنه يمكن أن يكون هناك خطوة تالية لما حدث فى استاد بورسعيد خلال الأسبوع قبل الماضى يخطط لها من يريدون إدخالنا فى سيناريو الفوضى، أو ربما كان الأمر بروفة أولى لجس النبض وقياس استجابة المصريين لهذه الفتنة التى يمكن أن تنشب بين المصريين وبعضهم البعض، وتجر مصر إلى حرب أهلية، تماما مثل فتنة ماسبيرو أو مجلس الوزراء التى نشبت على إثر كرة سقطت داخل مبنى البرلمان كان بعض الصبيان يسلون بها اعتصامهم أمام مجلس الوزراء، أو حتى على إثر مناقشة تحولت إلى ما يشبه المشاجرة بين الصبى وأحد ضباط الحراسة الذين التهبت مشاعرهم وأعصابهم هم والجنود الذين يحرسون المنشآت الحيوية فى مربع ميدان التحرير بسبب السباب المقذع الدائم لهم من قبل صبية صغار لا يدركون حجم الجرم الذى يرتكبونه فى حق وطنهم وبلدهم، مدفوعين فى ذلك بتحريض من بعض الموتورين الذين تهددت مصالحهم بعد سقوط دولة الفساد، وقد كانوا أبرز المنتفعين بفساده، وقد انضم إليهم على هدف إدخال مصر فى سيناريو الفوضى طلاب السلطة الذين غادرهم قطارها بعد الثورة وانكشفت حقيقة صراعاتهم وكونهم جزءا أصيلا من لعبة النظام السابق الذين استفادوا من عهده ويريدون أن يستمروا فى استغفال المصريين ويقفزوا على مقاعد السلطة الحالية، ومنهم وكلاء للغرب والمشروع الأمريكى الرأسمالى وقد تبنوا هذا المشروع وتقتلهم الآن طموحات التغيير على طريقته، لأنهم يجدونها فرصة سانحة قبل أن تستعيد السلطة الشرعية - المنتخبة من الشعب هذه المرة - عافيتها. (2) هذان الفصيلان – للأسف - اجتمعا فى اتفاق غير مكتوب على تعكير ماء مصر حتى يصطادا أسماك السلطة حتى ولو خرجت لهم عفنة.. يجمع هذين الفصيلين – غير محاولة الاستيلاء على السلطة – الحرب من أجل جلب المصالح المادية أو الحفاظ على ما فى أيديهما منها بالفعل، وإذا كان الفصيل الأول الذى نسميه فلول النظام السابق يحيك مؤامراته فى السر أو من وراء ستار، فإن الفصيل الأخير أكثر جرأة وبجاحة على كشف وجهه وعدم إخفاء نواياه ويتحرك فى الآونة الأخيرة كما لو كان قد أصابه مس من الجنون، وأعضاء هذا الفصيل هم بالتحديد الذين يقفون وراء الدعوة للعصيان المدنى وإدخال البلاد فى حالة إضراب يوم 11 فبراير (يوم صدور هذا العدد من أكتوبر) بدعوى التعجيل برحيل المجلس العسكرى قبل الانتهاء من تسليم السلطة وإقالة الحكومة بدعوى أنهما لم يحققا مطالب الثورة، متغافلين عن أن المجلس العسكرى لا يريد أن يتخذ إجراءات استثنائية ويترك هذا للسلطات المدنية المنتخبة بعد استكمال الدولة لكافة مؤسساتها الحاكمة، وليس الهدف الحقيقى من وراء سعيهم وتحركاتهم إلا استلاب السلطة قبل أن يستكمل الشعب اختيار حكامه وممثليه، وقد أدركوا عن يأس أن الشعب قد فرزهم واستبعدهم من الاختيار، بل تأكد مما كانوا يخططون له، لذلك بدأوا فى إخراج السيناريوهات البديلة ل «سلمية سلمية»، وتواترت على مدوناتهم وتعليقاتهم على «الفيس بوك» بشناعة عبارات الدعوة للانتقام والعنف واستجلاب السيناريو الليبى.. واحد من هؤلاء كان مرشحا لمنصب وزير الاتصالات فى وزارة عصام شرف الثانية وقبل ساعات من صدور قرار توزيره اكتشف المصريون الشرفاء أن هذا الذى كان يقدم نفسه ناشطا ثوريا وهو القادم من صفوف ومريدى د.نظيف رئيس الحكومة الأسبق الذى كان من أهم أسباب قيام الثورة، هذا الذى يدّعى الغيرة الوطنية كان شريكا لإسرائيليين فى استثماراته الخاصة فى عالم الاتصالات، هو إذًا ينتمى لهذا الجيل الجديد الذى لا يرى فى الوطن إلا أنه استراحة وسوق ضمن أسواق عديدة للبيزنس وتصريف المنتجات، وبالتالى فهو قابل للمقايضة والبيع والشراء، وتفجر بحر كراهية هذا الشخص على أثر يأسه من استوزراه فراح يدعو فى مقالاته وتغريداته على تويتر للانتقام من هذا الوطن وسلطة العسكرى التى استبعدته من التشكيل الوزارى نزولا على إرادة الناس. (3) كثيرون مثل هذا الدعّى ربطتهم فى السنين الأخيرة خيوط عنكبوتية بهذه الكيانات الشيطانية فى الغرب وإسرائيل، ومثله كثيرون من النصابين والعاطلين الذين قدموا أنفسهم فى السنوات الأخيرة على أنهم نشطاء العمل الأهلى التطوعى أو الذين ثبّتوا على صدرية بذاتهم دبوس «الليبرالية» وحصلوا مقابل هدمهم فى أساسات دولتهم على ملايين الدولارات تحت يافطات العمل الأهلى التطوعى غير الهادف للربح وأكثرهم يدرك جيدا أنه يلعب مع أطراف شيطانية، ويظن أنه يمكن أن يخادعها ويحصل منها على الأموال مقابل أن يبيع لها الوهم، ولا يدرك عن قصد أنه يستجلب لغيره فى الداخل من المصريين هذا الوهم ويتحول لديهم إلى عقيدة أو ما يشبه ذلك. (4) ونعود إلى ما بدأنا به عن الغباء الأمريكى الذى يصدر عن إحساس طاغٍ بالقوة والتفوق يصور له أن المصريين لم يكتشفوا حتى الآن قذارة لعبتهم فى المنطقة وإصرارهم على المضى فى هذه اللعبة إلى النهاية، على الرغم من صعود الإرادة الشعبية التى امتلكت زمام القرار وفرضت وجودها بعد ثورة 25 يناير، وعلى الرغم من أن أى استطلاع بسيط للرأى سوف يعكس حقيقة أن المصريين لم يعودوا يرون فى الولاياتالمتحدة هذا الحليف الاستيراتيجى الذى طالما طنطن به النظام السابق، والذى حافظ على علاقة الإذعان مع أمريكا على كره للحفاظ على بقائه والسماح له بتوريث السلطة، وليس لأن الأمريكان يدركون أن مصر رمانة ميزان الاستقرار فى المنطقة وبالتالى فهم أنفسهم من يحافظون على استقرارها. المصريون أيضا لم يعودوا يستبعدون ضلوع الولاياتالمتحدة - من خلال وكلائها وأموالها أو تمويلاتها غير الشرعية - فى الاضطرابات الأخيرة وحمامات الدم التى تفجرت من ماسبيرو إلى محمد محمود، ومجلس الوزراء، وحتى وإن لم يكن هؤلاء الوكلاء فاعلا أصيلا فى تلك الأحداث فهم على الأقل محرض أصيل. ومازالت أمريكا تواصل لعبة الشد والجذب التى يجيدها خبراء مؤامراتها، ومازالت تضغط على الإرادة الحاكمة الممثلة الآن فى المجلس العسكرى تحت تصور أنها تلقت تطمينات من السلفيين والإخوان تجاه المعاهدات الدولية والإقليمية.. وإذا نجحت أمريكا فى (تخويف) السلطة الحاكمة أو كسر إرادتها فسوف تمضى فى مخططها حيال مصر إلى النهاية، لذلك فعلى الشعب الآن أن يقول كلمته مقابل أمريكا وأن يعلنها مدوية، وإذا كانت أمريكا تمارس التسخين على جبهتها فليرد عليها الشعب المصرى الرد المناسب، ولتذهب المعونة إلى الجحيم.