لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي انطلقت فيها إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة ، لكني أستطيع القول إني قد تجولت في أرجائه مشيا على الأقدام ، وحدي أحيانا وأحيانا مع الأحبة والأصحاب ، كما ركبت الترام العتيق الذي كان يمر منه إياباً أو ذهاباً تجاه باب اللوق ، والتقيت في مقاهيه الشهيرة - ومن بينها أسترا ووادي النيل - مع أصدقاء كثيرين من الشعراء والأدباء العرب من مصريين وغير مصريين وكنت أفخر بأني أحد رواد مقهى علي بابا الذي يجلس فيه نجيب محفوظ كل صباح ليقرأ الجرائد ويشرب القهوة .بعيدا عن ذكرياتي الخاصة مع ميدان التحرير ، فإن لهذا الميدان العريق تاريخا مشرقا ومشرفا في تسجيل نضال أجيال من أبناء مصر ضد الاحتلال البريطاني الذي كان جاثما على أرض مصر وضد كل قوى القهر والتنكيل التي كانت وما زالت تحاول التمادي في الطيش والبطش ، وربما لا يعرف كثيرون أن هذا الميدان كان يسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديو إسماعيل خلال سنوات حكم أسرة محمد علي باشا إلى أن اختير له اسم ميدان التحرير مع بدايات ثورة يوليو المجيدة بقيادة الثائر العظيم الزعيم جمال عبد الناصر .مصداقا لمقولة إن التاريخ يكرر نفسه ، أعتقد أنه لا بد من عقد مقارنة بين ما جرى فى ميدان التحرير الذى كان يعرف بميدان الإسماعيلية يوم 21 فبراير سنة 1946 وما جرى وما يزال يجرى فى نفس الميدان منذ اليوم الرائع- يوم 25 يناير 2011 . ما جرى يوم 21 فبراير 1946 يتمثل فى مظاهرة ضخمة تضم ما يزيد على أربعين ألفا من الشباب ، معظمهم من الطلاب، وقد ظلت هذه المظاهرة تجوب أهم شوارع القاهرة إلى أن بلغت ميدان الإسماعيلية ، وهنا تصدت لها أربع سيارات مصفحة بريطانية واقتحمت الجموع بكل عنف ووحشية، وكان من المستحيل إفساح الطريق لها ، فسقط من القتلى من سقطوا شهداء وسقط من الجرحى من سقطوا ، ومع هذا فإن الطاغية إسماعيل صدقى ألقى فى مساء ذلك اليوم خطابا قال فيه بالحرف: إن المظاهرات السلمية التى قامت صباح اليوم قد تحولت بفعل الأيدى التى لم تعد خافية على أحد إلى مظاهرات فوضوية حيث اندست عناصر من الدهماء فى صفوف الطلبة الأبرياء ، كل هذا حولها إلى مظاهرات غلب عليها الشر ، فكان ما كان.. وبالطبع فإن هذا الطاغية لم يشر فى خطابه إلى السيارات البريطانية المصفحة ولا إلى قوات الشرطة التى استخدمت الرصاص الحى ضد الشباب! وعلى أى حال فإن يوم 21 فبراير 1946 قد أصبح – فيما بعد – يوم الطلبة العالمى الذى تحتفل به جميع دول العالم، تقديرا لتضحيات الشباب وتذكيرا بالدماء الذكية التى أريقت خلال أحداث ذلك اليوم الدموى الرهيب. هذا ما كان .. أما ما هو كائن حتى الآن فهو الذى جرى ابتداء من يوم 25 يناير 2011 حيث قام شباب مصر ممن ضاقوا بالقهر والتنكيل بمظاهرات سلمية بكل معنى الكلمة، ولم تكن تلك المظاهرات تطالب فى البداية إلا بتحقيق الكرامة الإنسانية وتوفير سبل العيش الكريم، وبدلا من أن يستجيب النظام المتجمد الشائخ لتلك المطالب المشروعة والعادلة قام المكلفون بحمايته بالتصدى والتعدى على هؤلاء الشباب الذين يتحلون بالوعى الثورى الإنسانى العميق ، ويعرفون جيدا أن الحرية ليست عظمة من العظام التى تقدم للكلاب وعلى الرغم من أن كثيرين منهم ربما لم يكونوا قد تذوقوا قصائد أمير الشعراء أحمد شوقى ولم يسمعوا أم كلثوم إلا لماما فإن وعيهم قد قادهم إلى ما تردده أم كلثوم من قول شوقى: وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنياغلابا تصور النظام الذى شاخ وترهل أنه لا يواجه جيلا رائعا ليس بالمتخاذل أو المستكين المتواكل، إنما يواجه – شوية عيال - يمكن أن تفرقهم خراطيم المياه وقنابل الغاز المسيل للدموع وهكذا تعامل هذا النظام معهم بكل ما يتمتع به من غباء ممزوج بالغرور والاستعلاء، كما ظل حزبه الوثنى يتباهى بخراب وطنى، دون أن يدرك أن شمس التغيير لا بد أنها ستشرق– لا محالة - من ميدان التحرير. الجماهير والإفاقة من التخدير منذ أن ارتكب نظام الثورة المضادة – بعد غياب عبد الناصر - جريمته الحمقاء بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد لما يسمى بالسلام سنة 1978بينه وبين الكيان الصهيونى أحسست بالانكسار ، ومن يومها لم يحدث – ولو لمرة واحدة - أن قمت برفع علم بلادى معتزا وفخورا، مثلما يعتز كل إنسان بعلم الوطن الذى ينتمى إليه ، وكم كنت أشعر بالحزن العميق يغزو روحى وكيانى عند مشاهدتى لآلاف المواطنين وهم يلوحون بهذا العلم أثناء توجههم لحضور مباريات كرة القدم بين المنتخب الوطنى المصرى وسواه من المنتخبات التى يتبارى معه ، سواء أكانت منتخبات أجنبية أو عربية، وكم كنت ألاحظ أن المكان الذى تقام فيه المباراة يتحول من مجرد استاد رياضى إلى أرض معركة حربية ، فإذا انتصر المنتخب الوطنى فى تلك المعركة عمت الأفراح قلوب الملايين من المصريين، أما إذا كانت نتيجة المعركة خسارة طفيفة أو فادحة له ، فإن النحيب لا بد أن يتعالى من جدران كل بيت ، ولأنى كنت – عادة – أتهكم على ما أراه كان كثيرون من أصدقائى يتهموننى – من باب المداعبة أو من باب الغيظ أحيانا– بأنى إنسان غير وطنى وبأنى ربما كنت من الطابور الخامس الذى يحاول أن يثبط الهمم، دون أن يشاركهم فى أفراحهم عند الانتصار ، أو يشاطرهم أحزانهم عند الهزيمة والانكسار ! اتذكر أنى أمسكت بيدى علم بلادى لأول مرة فى حياتى أيام العدوان الثلاثى الغادر ضد مصر سنة 1956وكنت وقتها فى الثالثة عشرة من العمر، أما العلم فكان أخضر اللون يتوسطه هلال وثلاثة نجوم ، وما زلت حتى يومنا هذا أحتفظ بهذا العلم تذكارا جميلا وجليلا ، ثم تتالت المناسبات التى أتذكر منها إعلان قيام الوحدة العربية تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958 والإعلان عن اكتمال بناء السد العالى وخلال أيام من سنوات حرب الاستنزاف المجيدة التى استشهد فى أحد أيامها الشهيد العظيم الفريق عبد المنعم رياض ، وحين عبر الجيش المصرى قناة السويس ليدك أسطورة التفوق العسكرى الصهيونى فى مستهل حرب أكتوبر 1973 ظللت أرفع علم بلادى ثم توقفت تماما عن هذا الفعل الحماسى بمجرد توقيع نظام الثورة المضادة اتفاقية كامب ديفيد التى أعادت سيناء لمصر منزوعة السلاح! اكتفيت بالفرجة الحزينة أو بالتهكم الساخر خلال مباريات كرة القدم بين المنتخب المصرى وسواه من المنتخبات، فقد كانت تلك المباريات أشبه بالمعارك الحربية كما قلت ، وكان هدف النظام الذى شاخ وداخ وباخ إفراغ طاقات الشباب من مضمونها الحقيقى وتخدير الملايين من أبناء مصر البسطاء حتى تغمض عيونهم أثناء عمليات النهب المنظم لكل ثروات بلادهم من جانب أشباه الرجال فى سلطة القمع والمنع ممن تكتلوا وتخندقوا مع الجشعين مصاصى الدماء، لكن ما جرى ابتداء من اليوم التاريخى الناصع والرائع – يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 أثبت للجميع أن مصر الصابرة لم تكن نائمة وأن شبابها المسلحين بالوعى العميق وبالعلم الحديث قد استطاعوا إزاحة كابوس ثقيل بعد أن تنحى رأس النظام مكرها عن الحكم. أخيرا آن لى أن أرفع علم بلادى مزهوا ومبتهجا بما تحقق على أيدى الشباب، وأن ألتحم مع الجماهير التى فشلت كل محاولات تخديرها لتغييبها عن الوعى بما يحاك ضدها من جانب الخفافيش الكريهة وحشود المنافقين والمطبلين والمزخرفين لكل ما هو باطل ، وإذا كان النظام الشائخ والدائخ قد ترنح ثم سقط سقوطا مدويا، فإنى ما زلت أتذكر إحدى النكت الظريفة واللطيفة التى كانت تؤكد أن المتظاهرين قد خرجوا فى مظاهرة ضخمة للمطالبة بعودة الرئيس المتنحى، وهم يرددون : ارجع.. أنت كنت مع الكاميرا الخفية ! ليلة واحدة للبهجة أن تهتز الأرض تحت أقدام الطغاة لكى تخلخل أو تزلزل عروشهم التى نخرها السوس ، هذا أمر حتمى ومؤكد ، أثبته التاريخ على امتداد عصوره ، ويؤكده الواقع الذى نحياه فى حاضرنا وستشهد عليه الأجيال الآتية فى المستقبل . ولكن أن تهتز الأرض تحت أقدام شعوب بأكملها، بصورة مخيفة تجعل المقهورين يترحمون على ما مضى من طغيان ، متناسين ما قاسوا خلال ذلك الطغيان من قهر وظلم وإهانة ، فتلك هى الكارثة التى لابد من استئصالها بكل الوسائل ، أن يظهر – وسط طوفان الثورات - بلطجية أو بلاطجة أو شبيحة ، لكى يقوموا بالترويع والسرقة بالإكراه والقتل والاغتصاب ، فهذا كله ليس بالعجيب ولا الغريب ، لكن ما يدعو للعجب بل للقرف إلى حد الغثيان، فهو أن يتحول بعض الثوار إلى بلطجية أو بلاطجة أو شبيحة ، أو أن يتحولوا من نماذج بشرية مشّرفة إلى مسوخ مشوهة ومجوفة، أو أن ينقلبوا من الإيمان بتنوع الآراء واحترام وجهات النظر المختلفة إلى خلق ديكتاتوريات جديدة مصغرة ، تنهج نفس المنهج الذى قاموا بالثورة عليه وبالوقوف ضده ، فهذه كلها – كما قلت– أمور لا تدعو للعجب بل للقرف إلى حد الغثيان . السياحة فى مصر الآن مضروبة وفقا للمصطلح الشعبى . الفنادق التى كانت تكتظ عن آخرها بحشود السياح الأجانب ومعهم الأشقاء من السياح العرب أصبحت خاوية. المعالم الأثرية لا تجد من يزورها . أما ما يدل على غياب الوعى أو على غيبوبة العقول، فهو ما عرفته – منذ عدة أشهر - من أن العاملين فى قطاع الآثار قرروا القيام بمظاهرة كبيرة فى إحدى مدن صعيد مصر للمطالبة بعودة السياح الأجانب، وكان يمكن لتلك المظاهرة أن تقوم وأن ترتفع فيها أصوات المحتشدين لولا تدخل العقلاء الذين بينوا لمن كانوا ينوون التظاهر أن السياح يهربون من أى بلد لا يتحقق فيه الاستقرار المقترن بالأمن و بالأمان . الطريق إلى الجحيم مفروش بالنيات الحسنة. هذا قول شائع وقديم ، ولكن ما بالنا إذا كان الطريق مفروشا بالنوايا المشبوهة المقصد والتوجه ؟ وهل ضحى مئات الشهداء بأرواحهم الغالية، لكى يسقط الحاكم المتبلد الروح، والفاقد لأى طموح باستثناء طموحه لأن يرث ابنه حكم مصر من بعده ، أم لكى يستبدلوا بالظلمة الشائهة السوداء ظلمات أشد وطأة وقسوة ؟ ليلة واحدة للبهجة . ليلة واحدة لا أكثر ، تلك الليلة الواحدة كانت ليلة الإعلان عن تنحى أو تخلى رأس النظام عن حكم مصر . كنت واحدا من أبناء مصر المبتهجين بذلك التنحى أو التخلى ، وظللت أرفع علم بلادى وقلبى يهتز فرحا مع رفرفة هذا العلم . كانت وجوه أبناء مصر منورة فى الليل ، لدرجة أنى تصورت أنى أحلم حلما لذيذا أو أننى أتجول فى شوارع إحدى المدن المتقدمة – لا بزخارف القول إنما بروعة الفعل - حيث يبدو الناس فرحين بالحياة ومبتهجين بالسكينة والأمان. لكن المصيبة التى عانيت وما زلت أعانى منها أن الحلم اللذيذ لم يبق منه أثر ، وكأن الوجوه المبتهجة التى نوّرت ظلمات ليلة التنحى أو التخلى قد اختفت تماما ، لتحل مكانها وجوه شاحبة مكتئبة ، يتحرك أصحابها بتوتر عصبى ، حين يمشى كل منهم لأداء عمله اليومى ، هذا إذا كان لديه عمل حقا ! الآن أسألكم أو أسأل نفسي: هل قام الخاطفون باختطاف امرأة رائعة الجمال ، اسمها ثورة ؟ ومن هم هؤلاء الخاطفون ؟ ولماذا اختطفوها قبل أن نبتهج بجمالها، كما يبتهج العشاق فى العالم المتفتح للحياة بلقيا حبيباتهم؟!