رغم بعض التحفظات التى أبدتها الأحزاب والقوى والتيارات السياسية على مسودة وثيقة المبادئ الأساسية للدستور الجديد التى طرحها الدكتور على السلمى نائب رئيس الوزراء فى الاجتماع التشاورى حول الوثيقة يوم الثلاثاء الماضى والذى غابت عنه التيارات السياسية الإسلامية؛ إلا أن التوافق العام على مجمل المبادئ الدستورية يجعلها ملزمة للجميع عند إعداد الدستور بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو الأمر الذى يتعيّن معه إسراع المجلس العسكرى بإصدار إعلان دستورى يتضمن هذه المبادئ الأساسية المتوافق عليها. أما غياب التيارات الإسلامية ممثلة فى «الإخوان» والسلفيين عن ذلك الاجتماع التشاورى والذى يعكس رفضهم المسبق والمريب لفكرة الالتزام الوطنى العام بمبادئ أساسية للدستور الجديد، ثم إعلانهم عن رفض ما انتهى إليه الاجتماع من توافق على تلك المبادئ، إنما يؤكد فى حقيقة الأمر هواجس كل القوى السياسية والوطنية بشأن مواقفهم المستقبلية المتوقعة بعد وصولهم إلى البرلمان وعند صياغة الدستور الجديد. هذا المعنى هو ما أجمع عليه ممثلو الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة الذين شاركوا فى الاجتماع التشاورى، إذ فسّروا غياب ممثلى التيارات الإسلامية بأنه يعكس رغبتهم فى السيطرة على الحياة السياسية والانفراد بحكم البلاد وهو الأمر الذى يكشفه تعمّدهم الدائم للخروج على التوافق العام من جانب كافة القوى السياسية والوطنية. *** القراءة المتأنية لمسودة وثيقة المبادئ الأساسية للدستور الجديد تؤكد أنها فى مجملها جاءت تعبيراً صادقاً عن كافة الاتجاهات السياسية والوطنية، وباستثناء المادة التاسعة من الوثيقة وبعض الملاحظات على الصياغة، فإنه لا خلاف جوهريا على هذه المبادئ وعلى النحو الذى جعلها تحظى برضاء وقبول الغالبية العظمى من الأحزاب والقوى الوطنية ومن ثم جموع المصريين. إن أهم هذه المبادئ الأساسية كان المادة الأولى التى نصت على «أن جمهورية مصر العربية دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة وسيادة القانون وتحترم التعددية وتكفل الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون أى تمييز أو تفرقة»، إذ أن هذه المادة تكرس وتؤكد الضمانات الضرورية للحيلولة دون إقامة دولة دينية فى مصر وبما يتعارض مع مبدأ وفلسفة حق المواطنة لجميع المصريين. غير أن ثمة ملاحظة على الفقرة الثانية من هذه المادة وبحيث كان يتعين أن يأتى النص الدستورى على أن الشعب المصرى جزء من الأمة العربية ويعمل على تحقيق وحدتها الشاملة فى مادة أخرى مستقلة. *** ولقد حسم التوافق العام بل الموافقة على بقاء المادة الثانية من الدستور السابق فى الدستور الجديد والتى تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.. لقد حسمت الموافقة الإجماعية على هذه المادة كل ما كان مثاراً بشأنها من جدل خاصة بعد إضافة فقرة خاصة عن غير المسلمين. والحقيقة أن اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع كان أكبر ضمانة لحقوق غير المسلمين باعتبار أن الإسلام يحترم عقائد غير المسلمين، إلا أن إضافة عبارة «ولغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم فى أحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية»، وحسبما وردت فى مسودة الوثيقة، من شأنها طمأنة المصريين المسيحيين وإزالة أية شكوك ومخاوف مستقبلية لديهم. *** وإذا كان لا خلاف أيضاً على ما تضمنته المادة الرابعة من الوثيقة فى مجملها بالنص على أن «النظام السياسى للدولة جمهورى ديمقراطى يقوم على (التوازن) بين السلطات والتداول السلمى للسلطة و(نظام تعدد الأحزاب) شريطة ألا تكون (عضويتها) على أساس دينى أو جغرافى أو عرقى أو (فئوى) أو أى مرجعية تتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة فى هذا الإعلان». لكن تبقى عدة ملاحظات على هذه المادة سواء من حيث المضمون أو الصياغة.. أولها أن تعبير (التوازن) بين السلطات مطاط وغير دقيق، إذ الأصح أو الأدق استبداله بتعبير (الفصل) مع ضرورة تسمية السلطات بوضوح وتحديدها فى السلطات الثلاث.. التنفيذية والتشريعية والقضائية. الملاحظة الثانية خاصة باستخدام تعبير «نظام تعدد الأحزاب» وكان الأدق استخدام تعبير «التعددية الحزبية»، أما الثالثة فهى خاصة بالنص على اشتراط ألا تكون (عضوية) الأحزاب على أساس دينى.. وكان الأدق النص على اشتراط بل حظر قيام الأحزاب ذاتها على أساس دينى وغير ذلك، أما الملاحظة الأخيرة وفيما يتعلق أيضاً بالأحزاب وحيث اشترطت المادة ألا تكون عضوية الأحزاب على أساس (فئوى) وهو الأمر الذى يثير التباسا بشأن قيام أحزاب للعمال والفلاحين على سبيل المثال. خلاصة القول فى هذه المادة الرابعة أنه يلزم إعادة صياغتها.. صياغة أكثر دقة وانضباطا دون أى لبس حتى لا تتسبب فى خلافات عند إعداد الدستور، ونفس هذه الملاحظة على الصياغة تنطبق بدرجة كبيرة على مجمل نصوص مواد مسودة المبادئ الأساسية. *** وبعيداً عن تلك الملاحظات الخاصة بصياغة نصوص مواد المبادئ الأساسية، فإن الملاحظة الأكثر أهمية تتعلق بالمادة التاسعة على وجه الخصوص والخاصة بوضع القوات المسلحة والتى كانت مثار اعتراض ورفض كافة القوى والأحزاب السياسية. إن النص فى الفقرة الثانية من هذه المادة على اختصاص المجلس الأعلى للقوات المسلحة (دون غيره) بالنظر فى كل ما يتعلق بالشئون الخاصة للقوات المسلحة ومناقشة بنود ميزانيتها على أن يتم إدراجها رقماً واحداً فى موازنة الدولة، كما يختص (دون غيره) بالموافقة على أى تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره. .. هذا النص يتعارض مع ديمقراطية ومدنية الدولة التى نصت عليها المادة الأولى من الوثيقة ذاتها، وفى نفس الوقت فإنه يكرس لاعتبار القوات المسلحة دولة داخل الدولة وهو الأمر الذى يتعارض أيضاً مع الفقرة الأولى من هذه المادة ذاتها والتى تنص على أن «الدولة وحدها هى التى تنشئ القوات المسلحة وهى ملك الشعب». ولذا فإنه يتعين وبالضرورة تعديل هذه المادة وعلى النحو الذى يتيح الرقابة على ميزانية القوات المسلحة وبما لا يتعارض مع مقتضيات الأمن القومى وذلك من خلال لجنة الأمن القومى بالبرلمان على غرار ما يحدث فى الدول الديمقراطية. وفى نفس الوقت فقد غاب نص دستورى بالغ الأهمية كان من المفترض بل من الضرورى أن تتضمنه وثيقة المبادئ الأساسية يؤكد أن القوات المسلحة ممثلة فى مجلسها الأعلى هى الضامن الأول والوحيد لمدنية وديمقراطية الدولة والتداول السلمى للسلطة مع تعهدها بالتصدى بقوة لأى خروج على مدنية الدولة أو انتهاك الدستور. *** وبقدر ما جاء إعلان وثيقة المبادئ الأساسية للدستور خطوة سياسية وطنية مهمة فى بداية طريق التحول الديمقراطى وإعادة بناء مؤسسات الدولة المصرية بعد الثورة، فإنه وبنفس القدر من الأهمية جاء تحديد معايير تشكيل الجمعية التأسسية لوضع الدستور خطوة صحيحة لضمان إصدار دستور يكون معبرا تعبيرا حقيقيا عن الغالبية العظمى للقوى السياسية وكافة الاتجاهات وجموع المصريين. إن تشكيل الجمعية التأسسية من (80) عضوا من خارج البرلمان يمثلون كافة أطياف المجتمع السياسى والمدنى إضافة إلى (20) عضوا من البرلمان.. يحول دون احتكار فصيل بعينه قد يحصل على الأغلبية فى الانتخابات المقبلة لوضع الدستور الجديد. *** إن تشكيل الجمعية التأسسية وفقا لهذه المعايير هو أكبر ضمانة لتبديد المخاوف بشأن الدستور الجديد، فى الوقت الذى بدت فيه معايير تشكيل الجمعية حلا سياسيا للخلاف حول هل الدستور أولاً أم الانتخابات؟