فليسمح لى قراء ومحبو أستاذى أنيس منصور أن أعتذر لهم مرتين نيابة عن أسرة مجلة أكتوبر! الاعتذار الأول عن خطأ لم أرتكبه، أنا وتلاميذه، وهو عدم تكريم الأستاذ، مؤسس مدرسة أكتوبر الصحفية، طوال السنوات الماضية “على حياة عينه”، كما يقولون، فى مجلته التى أسسها لتكون نموذجاً فريداً فى الصحافة العربية.. وعذرى أننى لم أكن أملك وقتها القرار لكى أخصص عدداً من المجلة من الجلدة للجلدة لتكريم الأستاذ.. أما الاعتذار الثانى فهو أننى رغم امتلاكى لسلطة اتخاذ القرار، وتخصيص عدد من الجلدة للجلدة لتكريم الأستاذ، فإننى وزملائى لم نستطع أن نغطى كل الجوانب فى شخصية العملاق أنيس منصور.. فقد احترنا بين أنيس الأديب والصحفى والسياسى والفنان والفيلسوف.. والإنسان.. لكن عذرى الوحيد أن كل ما كتبناه، فى هذا العدد التذكارى الخاص، كتبناه جميعاً بقلوبنا قبل أقلامنا وعقولنا. وعندما سألونى، فى سهرة إذاعية فى البرنامج العام، لمدة تزيد على الساعة عقب تشييع جنازة أستاذى أنيس منصور، عن أهم ما لفت نظرى فى شخصيته.. قلت: إن أهم ما فيه أنه إنسان بكل ما تعنى هذه الكلمة من معان.. فإيمانه بقدرات الشباب لا حدود لها.. وذلك ما لمسناه ونحن نتعلم على يديه فى مدرسة أكتوبر الصحفية.. فقد كان يتفاعل ويتعامل معنا وكأنه شاب مثلنا.. حتى أنه كان يقدمنا لكبار المسئولين والوزراء قائلاً: "زميلى" فلان، وطبعاً كنا فى "نُص هدومنا" وهو يصفنا بأننا زملاؤه؛ لأننا كنا نعلم تماماً أننا تلاميذه ولسنا زملاءه، وأن المسافة بيننا وبينه طويلة طول المسافة من أسوان لرأس التين..! ولالتحاقى بكتيبة أكتوبر الصحفية حكاية كان بطلها الأستاذ، سأرويها ليس من باب التباهى ولا التفاخر؛ لكن لكى يستفيد منها الجميع رؤساء ومرءوسين.. شباباً وكهولاً.. فعندما أبلغنى صديق عمرى الكاتب الكبير الأستاذ أسامة أيوب بأن "الأستاذ" يبحث عن محرر اقتصادى جيد؛ لأن هذا التخصص هو ما ينقص مجلة أكتوبر.. اتفقت مع أسامة ومع أستاذتى الكاتبة الكبيرة مريم روبين، متّعها الله بالصحة والعافية، على أن أدخل على الأستاذ لا بكارت توصية كما هو الحال فى مثل هذه المواقف، لكن بموضوع صحفى قابل للنشر فوراً..! وكان أهم حدث اقتصادى آنذاك هو المؤتمر الاقتصادى الذى دعا إليه الرئيس السابق حسنى مبارك فى فبراير من عام 1982 وشارك فيه خبراء وعلماء من مختلف الاتجاهات والتوجهات.. واستعنت بصديق عمرى الكاتب الكبير الأستاذ أسامة سرايا فى إمدادى بكل الدراسات المقدمة للمؤتمر، والتى كانت سرّية، وأعددت موضوعاً بعنوان "اقتصاد مصر فى غرفة العمليات"..! ويوم لقائى بالعملاق أنيس منصور لبست كل اللى على الحبل.. البدلة والكرافتة.. ودخلت عليه، وكان جالساً فى مكتب أستاذنا محمد عبد الوارث متّعه الله بالصحة والعافية.. فسلمت عليه، وقلبى يرتجف بشدة، وقدمت له التحقيق بدلاً من كارت التوصية، فقرأه بسرعة شديدة ثم قال للأستاذ عبد الوارث: محمد.. الموضوع ده صفحتين العدد ده.. ثم نظر إلىّ قائلاً: محسن أهلاً بك معنا فى أسرة أكتوبر..!! هكذا كان الأستاذ.. بدون واسطة، لا أونكل ولا تيتة، ولا كارت توصية، كان يختار الصحفيين الذين يعملون معه.. واقعة أخرى.. عندما استنجد عدد من أهالى المطرية بالدقهلية بالمجلة لإنقاذهم من ظلم محافظ الدقهلية، وكان صديقاً شخصياً للأستاذ أنيس منصور، فذهبت أنا وزميلى المصور الأستاذ محمد سامى لقرية بالمطرية لأرصد مظاهر الظلم واستطلاع آراء الأهالى.. والتقينا فى النهاية بالمحافظ ليرد على ما قاله الأهالى، وكان رده ضعيفاً وحجته باهتة، لكنه قال لنا بتباه: سلموا لى على الأستاذ أنيس لأنه صديقى الشخصى، يعنى الكلام إليك يا جارة! واحترت هل أكتب ما رأيته بعينى وما سمعته بأذنى من ظلم، أم أجامل المحافظ صديق رئيس التحرير.. ولم أتردد.. هاجمت المحافظ.. ودخلت على الأستاذ أنيس ورويت له ما حدث وأنا أقدم له التحقيق.. وقلت له إن المحافظ بيسلم عليك..!! فأمسك الأستاذ بالتحقيق ولم يقرأ إلا عنوانه وكان: "حكاية الأرض المخنوقة بالمطرية".. فكتب عليه "للجمع فوراً".. ثم نظر إلىّ وقال لى بسخرية: قل له الله يسلمه، أى المحافظ طبعاً..! ونشر التحقيق كاملاً ولم تحذف منه كلمة واحدة..! هكذا كان الصحفى والإنسان أنيس منصور الذى لو كتبت عنه صفحات وصفحات فلن أوفيه حقه..! لكننى سأختم بطرفة لأستاذنا الكبير الذى كان منجم نكت وقفشات وطرائف ونوادر: زميلنا الكاتب الكبير أحمد مصطفى، متّعه الله بالصحة والعافية، اختاروه ليمثل دوراً صغيراً فى فيلم كراكون فى الشارع مع عادل إمام.. وعندما أبلغوا الأستاذ أنيس بأن فلاناً وقَّع عقداً للتمثيل.. قال بكل بساطة: ياااااه.. لأول مرة فى حياته يمثل بعقد.. طول حياته بيمثل علينا من غير عقد..!! زميل آخر هو الكاتب الكبير الأستاذ أيمن كمال.. توفى والده الشاعر الكبير كمال منصور وكان صديقاً للأستاذ أنيس، فلما ذهب الأستاذ للعزاء وجد أيمن يرتدى كرافتة ملونة.. فقال له: لو أعرف إنك مش زعلان قوى على أبوك.. ماكنتش جيت عزيتك..!! رحم الله أستاذنا ناظر مدرسة أكتوبر الصحفية.. أستاذنا أنيس منصور.. الأديب والصحفى والفيلسوف والفنان وقبل كل هذا وذاك.. الإنسان.