أكبر مستند، يسقط الجاسوس فى يد من جندوه، الإيصال الذى يوقعه باستلام أى مبلغ من المال منهم، إذ أنه يثبت تماماً تعامله معهم، وتقاضيه ثمن خيانته، يثبت حالة الرضا والقبول لديه، ويجعله فى بعض الأحيان، مضطراً للاستمرار فى الخيانة، خشية أن يصل هذا الإيصال إلى المسئولين فى وطنه، فتنهار حياته كلها.. ولكن أى جاسوس، يتم تجنيده بهذه الوسيلة القسرية، يمكنه أن يفلت من بئر الخيانة، بأسلوب واحد فقط، وهو أن يتجه، فور عودته إلى وطنه، إلى مخابرات دولته، ويخبرهم بكل ما حدث، ويضع نفسه تحت تصرًَّفهم، وهم قادرون، فى هذه الحالة، على حمايته، وإنقاذه من مصير أسود، فى حالة انكشاف أمره.. وهناك فارق كبير، بين شخص حاول العدو تجنيده، فلجأ مباشرة إلى مخابراته لحمايته، وآخر تصوًَّر أنه قادر على خداع الجميع، فواصل تزويد العدو بالمعلومات لفترة، طمعاً فى المزيد من المال، وبعد أن حقًَّق ما يريد، حاول القيام بما يسمى (لعبة التنظيف)، وهى أن يلجأ بعدها إلى مخابرات دولته، ويبلغها بما حدث، متصوًَّراً أنه بهذا قد فاز بالحسنيين، فحصل على أموال العدو، وقام بتنظيف قذاراته فى الوقت ذاته، وهى أكثر الألعاب حماقة، فى عالم الجاسوسية، فمن غير المنطقى، حتى فى كرة القدم، أن يتصوًَّر لاعب واحد قدرته على مواجهة فريقين محترفين، والانتصار عليهما معاً، فى آن واحد ...فجهاز المخابرات –أى جهاز مخابرات- ليس مجرًَّد مكتب بسيط، بل كيان ضخم، يضم عددا هائلاً من الخبراء والمختصين والفنيين، الذين يمكنهم استيعاب وتحليل وتنسيق كل كلمة تصل إليهم، وعندما يحاول أى جاسوس متلاعب مواجهة هذا الفريق المخيف، فإنه سيكشف نفسه، مهما اتخذ من وسائل الحذر، وسيدرك الفريق حتماً مدى تورًَّطه، وسيكشف لعبة (التنظيف)، التى يحاول القيام بها، وستصبح أقواله عندئذ هى دليل إدانته، وليست وسيلة تنظيف ماضيه.. فأى جهاز مخابرات فى العالم لا يعمل فيه أحد، أو يتخذ أية قرارات، على نحو منفرد، دون الرجوع إلى الخبراء، وهذا يمكن أن يجيب التساؤل الدائم، عن سر طول الفترة، ما بين كشف أمر جاسوس ما، والإعلان عن هذا الكشف، وتلك الفترة، ما بين إلقاء القبض عليه، والإعلان عن هذا، ففى نظم الأمن العادية، يمكن أن ينتهى أى تحقيق خلال أيام قليلة، ومن الوارد استخدام شئ من العنف؛ لانتزاع الاعترافات، ولكن فى عالم المخابرات يختلف الأمر كثيراً، إذ لا يتم إلقاء القبض على أى جاسوس، أو متهم بالجاسوسية، إلا بعد أن تكتمل لدى الجهاز أدلة كافية، كثيراً ما تكون موثقة بالصوت والصورة، ولهذا سبب رئيسى، فالمتهم، بالنسبة لأجهزة الأمن الداخلية، يرتكب الجريمة، منفرداً أو ضمن جماعة ما، على نحو يخضع للقانون المصرى وحده، أما اتهام شخص ما بالجاسوسية أو التخابر، فهو اتهام ضمنى لدولة ما، بتورًَّطها فى عملية التجسًَّس، وهو أمر شديد الحساسية، محلياً ودولياً، وهذا يحتاج إلى التيقن أولاً، قبل اتخاذ أية خطوات عملية، وفى الحالات الداخلية، ومع استخدام بعض العنف، سيحصل المحقًَّق من المتهم على ما يريد سماعه، وليس على الحقيقة الكاملة، وهنا يختلف الأمر تماماً فى عالم المخابرات، التى تمثًَّل فيه الحقيقة الهدف الأساسى من التحقيقات، بحيث يتراجع دور الوقت أمامه، فالجاسوس، بعد إلقاء القبض عليه، تتم مواجهته بالأدلة، ثم يطلب منه الاعتراف، دون استخدام لمحة من العنف، وبمنتهى الصبر، وعندما يكتب الجاسوس اعترافه بخطه، لا يؤخذ هذا الاعتراف على أنه الحقيقة، بل يتم عرضه على لجنة كبيرة من الخبراء، فى مختلف المجالات، حيث يقومون بفحصه ودراسته وتحليله، وبمنتهى الدقة، إذ أن كل جاسوس يتم تدريبه على ما يسمى بالخطة(ب)، وهى عبارة عن رواية متقنة، تبدو ظاهرياً أشبه بالحقيقة، وتتمشى مع الأحداث وبعض الأدلة، وعلى الخبراء كشف هذا الأمر، وعندما يضعون تقريرهم، الذى يفنًَّد الاعتراف الأوًَّل، ويظهر نقط الضعف فيه، تتم إعادته إلى الجاسوس، وتتم مواجهته بتقرير لجنة الخبراء.. وربما يلجأ الجاسوس عندئذ، وفقاً لمرتبته وخبرته، إلى الخطة (ج)، التى تتخذ الدورة نفسها، ثم تعاد مرة أخرى إلى الجاسوس، الذى يسقط فى يده فى النهاية، ويدرك عبث اللعبة، فيدلى أخيراً بالاعتراف الحقيقى، الذى يتفق مع كافة الأدلة، ومع تقرير الخبراء.. لهذا قد يستغرق انتزاع الاعتراف من الجاسوس عدة أشهر؛ باعتبار أن الهدف الأساسى هو الحصول على الحقيقة، وليس إغلاق الملف فحسب.. وهناك دوماً تساؤل آخر، يطرح نفسه دوماً، مع إلقاء القبض على أى جاسوس، وهو: لماذا لا يتم حضور محاميه للاستجواب، من اللحظة الاولى؟!..وإجابة هذا التساؤل بسيطة للغاية، فهناك سببان أساسيان لهذا، أولهما أنه هناك معلومات، قد يتم تداولها أثناء التحقيق، وتندرج تحت بند السرية المطلقة، التى لا يجوز لآخرين، مهما كانت مكانتهم، الاطلاع عليها، والسبب الثانى هو أنه هناك فى عالم المخابرات ما يعرف باسم (كود الأمان). وللحديث بقية