ماذا جرى فى مصر..؟ ولماذا ثار الشباب على الدولة وعلى نموذج التنمية الذى وصفته حكومات ما قبل ثورة 25 يناير 2011 بأنه الطريق الأفضل إلى الرفاهية، النموذج الذى صدعت به التقارير الاقتصادية رؤوسنا ليل نهار حتى لجأت تلك الحكومات زمناً طويلاً إلى الاعتصام به والإشادة بمؤشراته التى صورت لنا بالأرقام الخادعة والبيانات المضللة أنها حققت مستدهدفات تنموية واستثمارية لم تكن متوقعة، دون أن تدرك الحكومات أن تلك - المضللات الاقتصادية - لم تكن خادمة لمجتمعنا ولم يكن لها أى أثر ملموس لدى جموع الشعب المُحمل بالمشكلات الطاحنة والتى احتشدت بميدان التحرير ظهر يوم 25 يناير 2011 تطالب بالتغيير. ومما لا شك فيه، أن كل ما كان يقال ويعلن ليل نهار عن نجاح التنمية فى مصر كان صورة وردية مصطنعة، ليس لها علاقة بالواقع الملموس من حياة الجماهير، كما أن هياكل المؤسسات الحكومية كانت فى حالة من الهشاشة لم تسمح لها بسماع أجراس الإنذار التى ظل يقرعها الفقر والجهل والظلم زمناً طويلاً. اختلال الموازين/U/ ولقد أدى اختلال القوى السياسية فى مصر، إلى اختلال مماثل فى موازين القوى الاقتصادية، فتضخمت طبقة المفسدين على حساب الطبقات الفقيرة والمهمشة وانحسار الطبقة الوسطى، لذلك، فقد خرجت الجماهير الغاضبة يوم 25 يناير لتسقط الدستور والنظام الذى قيد حريتها وسد كل مسالك الديمقراطية فى وجهها، وتدين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتكسر الطوق الأمنى وتستهدف الفساد الاقتصادى ومحيطه من تربح وسطو على عوائد التنمية من خلال الاعتداء على أملاك الدولة، والشركات مشبوهة التمويل، ومراكز الإحتكار وتسهيل الإستيلاء على المال العام... وغيرها. ولقد خرجت الجماهير الثائرة بخيرها وشرهامعاً تهاجم مؤسسات الدولة فى مشاهد مؤسفة من السلب والنهب تطالب بالتغيير، كما خرجت معها أصوات أخرى تطالب بالإصلاح وإعادة صياغة دور الدولة، ذلك فى الوقت الذى عجزت معه حكومة الفكر الجديد عن استدعاء أو تفعيل أى من إنجازاتها المزعومة لمواجهة مطالب جموع الشباب المجردة من الأمل فى حياة كريمة. غياب الأيدولوجيات/U/ وفى بيئة عامة غابت فيها الأيدولوجيات وقيدت فيها الحريات، وتعثرت فيها الديمقراطية الحقيقة، ولم يوجد فيها مشروع قومى واضح، أو بصيص أمل فى الالتفاف حول هموم محددة أو حلول مقترحة، فلاشك أن هذا الوضع وتوابعه قد زاد معه التعبير عن عدم السخط وخيبة الأمل العامة، وكان الدافع عند الناس هو قلقهم على حماية مصالحهم فقط أو مصالح جماعات محددة. كما أن عزوف الغالبية العظمى عن عدم المشاركة فى العمل العام، وهبوط معدلات الثقة بالخدمات العامة، وازدياد الفساد، وغيرها من عوامل، أسهمت فى انتشار إحساس عام بأن السياسة لاأهمية لها. كما أن التشكك فى الممارسات الديمقراطية بكافة أنواعها أدى إلى الوصول إلى قناعة عامة بأن الديمقراطية لاتؤدى إلى أى تغير ملموس. حكومة الأعمال/U/ وفى بيئة اقتصادية أثبتت فيها حكومة رجال الأعمال أنها أقل فاعلية وكفاءة وظلت الثقة فيها متدنية إلى درجة لا سابقة لها، وتبخر الاحترام التقليدى للعمل الحر، وللخبراء والمتخصصين،وسعى فيها الشباب بكل الوسائل نحو العمل الحكومى تاركين مجتمعاً يطلب بشكل متزايد جهودهم الفعالة، ومواقفهم الحاسمة فى قضاياه الحيوية، فإن ذلك قد أدى إلى قناعة عامة بأن الحلول لم تعد ممكنة من خلال قنواتها الشرعية. ولقد إستمر الشباب فى الشعور بالاغتراب عن السياسات المعبرة عن طموحاتهم، وظلوا فى ريب من برامج الحكومة، وفى شعور بأن الدولة قد هجرتهم، وأن ثمار التنمية لم تتساقط على رءوسهم، بل تساقطت عليهم البطالة والغلاء، وازدادت قناعتهم بأن السياسة التى قادتها التجارة والأعمال أدت إلى الإنحراف، وظل الناس يشعرون بأن القوة الحقيقة الوحيدة هى فى أيدى المؤسسات غير الملتزمة، والشركات والمنشآت التى تتجاوز الدولة وتعمل خارج نطاق المحاسبة، وباتوا على قناعة بأن أصوات الاجتجاج لابد أن تعلوا، وأن انتقالاً من سياسة التسليم والقبول إلى دور الاحتجاج والرفض أصبح ضرورة. عصر الجماهير/U/ والجدير بالانتباه، أن تراكم مثل هذه المشكلات قد خلق ما أصبح يطلق عليه - عصر الجماهير - حيث اختارت جموع المحتجين الشارع للإعلان عن همومهم، وذلك لشعورهم بأن هذا هو المكان الوحيد الذى يمكن أن يسمعوا فيه، فهم لن يثقوا بالحكومة إلا من خلال لغة جديدة أهم مفرداتها الاستجابة والنتائج. لذلك حاولت حركات الإحتجاج عبر المظاهرات والاعتصامات أن تجبر النظام ومؤسساته على أن يدفع الثمن مقابل استمراره فى عدم الإستجابة لمطالبهم، كما تعمدت تلك الحركات إسقاط النموذج الفاسد وصياغة قواعد جديدة تستطيع الأجيال القادمة على أساسها مستقبلاً. ومع إنشغال الحكومة بأدوار جانبية وإستجابات بطيئة، فإن الحركات الإحتجاجية على وجه الخصوص، اتسع التجاوب معها، واتسع المدى الذى أتاحته لمصالح أخرى متباينة، ولقد عملت تلك الجماعات بطرق لا سابق لها من أجل التوصل إلى أهدافها، بدلاً من أن ينتظر بعضها البعض على أساس أنهم جزء من المشكلة كما كان يحدث فى الماضى. التحول الثورى/U/ وعلى الرغم من تزايد حدود الخسائر الاقتصادية والاجتماعية التى تكبدتها الدولة خلال الشهور الستة السابقة، فمما لا شك فيه أن الأزمة سوف تنفرج، وأن السياسات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، سوف تسعى إلى إعادة بناء وصياغة الدور الجديد للدولة العصرية الحديثة، إلا أن التحدى الرئيسى الذى يواجه حكومة الثورة هو سرعة التعلم مما حدث أولاً، ثم سرعة التكيف مع واقع محلى سريع التغير وواقع دولى بالغ التعقيد والتشابك بما ينعكس مباشرة على تطور أدائها فلم يعد التحدى مقصوراًً فقط على سرعة تعويض ما لحق بالاقتصاد من خسائر يصعب حصرها، وإنما أصبح الأمر يرتبط بمدى التقدم الشامل فى ظل سباق دولى محموم للتكيف مع معطيات العالم الخارجى.و بذلك، فسوف تجد الحكومة نفسها فى سباق لا مفر من مواجهته إلامن خلال تحول جاد نحو إصلاح جوهرى متكامل يستهدف رفع تنافسية المجتمع بكافة قطاعته المتختلفة، والتعامل مع التشوهات الهيكلية والقيود البيروقراطية والمشكلات الأمنية الحالية. المرحلة القادمة/U/ والتساؤل الآن هو، هل هناك آليات جديدة يمكن من خلالها إعادة بناء الدولة العصرية..؟ وهل يمكن معالجة القضايا الأساسية بشكل أفضل...؟ وأن تصبح السياسة مرة ثانية منتجاً يمكن شراؤه...؟ وهل يمكن أن يكون الدستور حامياً للحريات ومؤكدا للديمقراطية...؟ وهل يمكن جعل التنمية صالحة للجميع لا للأقلية وحدها..؟ وهل يمكن بناء حكومة خادمة لمجتمعنا..؟ والمؤكد أن هذا كله ممكن من خلال نموذج جديد يقوم على مبادئ الشمولية، وإعادة الوصل بين العمل الاجتماعى والاقتصادى، وعلى آليات تضمن لكل مواطن أن يجد طريقه للعدالة، وأن قواعد وأسس هذا النموذج هى الإرادة السياسية والمسؤلية، والحافز الأخلاقى.