من الطبيعى جداً بعد النجاح الباهر الذى حققته المخابرات المصرية بزرعها رفعت الجمال فى إسرائيل تحت اسم جاك بيتون، وهو الذى عرفه المصريون باسم رأفت الهجان بعد عرض المسلسل التليفزيونى الذى يحمل نفس الاسم، أن تنفتح شهيتها وتحاول مرة أخرى زرع مهاجر جديد من مصر.. وسرعان ما ظهر هذا المهاجر فى شخص إيزاك (زكى) كوتشوك، الذى نجح فى العمل داخل إسرائيل وتم تجنيده فى الجيش الإسرائيلى فى عملية من أذكى وأعقد العمليات التى قامت بها المخابرات المصرية. ولد إيزاك (زكى) كوتشوك فى مصر عام 1938 باسم كابورك يعقوبيان، كابن لعائلة أرمنية مصرية، وتعلم فى المدارس المصرية إلى أن وصل المرحلة الثانوية لكنه لم يكملها. وعندما بلغ العشرين من العمر توفى والده ووقع عبء إعالة أمه الأرملة على عاتقه. ولذلك عمل فى التصوير الفوتوغرافى الذى أثبت فيه تفوقا كبيراً. ورغم العمل المضنى من الصباح إلى المساء فإن الراتب كان هزيلاً لا يكفى لإعالة يعقوبيان الشاب ووالدته، فبدأ يتورط فى جرائم مثل النصب والاحتيال والسرقة أودت به فى النهاية إلى السجن فقد حكمت عليه إحدى المحاكم المصرية بالسجن لمدة ثلاثة أشهر . لكن فى ديسمبر 1959، وبعد أن قضى شهراً واحداً وراء القضبان، تم استدعاؤه من زنزانته بواسطة بعض من رجال المخابرات العامة المصرية الذين عرضوا عليه صفقة وهى أن يتم إطلاق سراحه من السجن وإغلاق ملف جرائم النصب والاحتيال التى ارتكبها فى مقابل تجنيده للعمل بالمخابرات. ولم يخبروه فى تلك المرحلة بأى شىء عن طبيعة المهمة التى سيقوم بها فوافق يعقوبيان على الفور. رأى رجال المخابرات المصرية فيه شخصية مناسبة تماماً لأن يزرعوها فى إسرائيل لمدة طويلة فقد جذبتهم إليه موهبته وإلمامه باللغات الأجنبية حيث كان يتقن الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والتركية، بالإضافة إلى لغته العربية، وكان قصير القامة نحيفا ذا فم واسع وشعر بنى وعينين بنيتين.. استغرقت عملية إعداده وتجهيزه للمهمة سنة كاملة حيث قام الخبراء من رجال المخابرات المصرية بتدريبه على أساسيات العمل السرى بما فى ذلك الهروب من المراقبة واستخدام الكتابة السرية وتصغير الصور وتجنيد العملاء وبعض من اللغة العبرية.. إلخ.. واستهدفت التدريبات بالأساس إعداده للدخول فى الشخصية الجديدة.. فيعقوبيان الأرمنى يجب أن يصبح يهوديا مصرياً ولبناء هذا الغطاء اليهودى أجريت له عملية جراحية لحم غرلته (عملية طهور) فى أحد المستشفيات بالقاهرة ، وذهب لزيارة المعبد اليهودى لكى يتعرف بنفسه على العادات والتقاليد والشريعة والأعياد والصلوات وكل شئ عن أسلوب حياة اليهود.. وأمدته المخابرات المصرية بصحف وكتب عن إسرائيل لكى يعرف كل شئ عنها وفى نفس الوقت أخذوا يجهزون كل الأوراق الرسمية المطلوبة للشخصية الجديدة. كان على يعقوبيان أن يقدم نفسه بوصفه ابنا لعائلة من اللاجئين اليهود الأتراك، الذين جاءوا الى مصر من اليونان.. ولذلك تضمنت الأوراق التى تم تسليمها إليه أنه من مواليد سالو نيكى فى اليونان عام 1935. وتبعا للقصة (الغطاء) فإن والده هجر والدته وابنه وذهب إلى مكان غير معلوم وأن الأم هاجرت مع ابنها إلى مصر حيث توفيت هناك. ولتدعيم هذا (الغطاء) سلمت الى يعقوبيان صورة قبر الأم التى تم دفنها فى مقابر اليهود بالبساتين فى القاهرة كما تم تزويده بوثائق مزورة باسم كوتشوك صادرة عن الطائفة اليهودية والحاخامية فى القاهرة. البرازيل.. بلد القاعدة/U/ بعد مرور حوالى تسعة أشهر، وفى خريف 1960، ذهب كوتشوك إلى مكاتب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فى القاهرة وطلب الحصول على شهادة (لاجئ) بدعوى أن السلطات المصرية ترفض تمديد تأشيرة إقامته وهى التأشيرة التى أعطيت لأمه قبل وفاتها.. وحصل بالفعل على ما يريده بعدعدة أسابيع. وفور حصوله على هذه الشهادة توجه ايزاك (زكى) كوتشوك الى قنصلية البرازيل فى القاهرة وقدم طلباً للهجرة الى البرازيل. ويعترف الإسرائيليون الآن بأن اختيار البرازيل لتكون (بلد القاعدة) ليعقوبيان كان خطوة ذكية للغاية من قبل المخابرات المصرية. وفى مارس 1961 منحت قنصلية البرازيل تأشيرة هجرة ليعقوبيان الذى أبحر بهويته الجديدة من الإسكندرية إلى ميناء جنوه الإيطالى، حيث اعتلى من هناك سفينة أسبانية تدعى (كاوسان روكى) كانت فى طريقها إلى البرازيل. وخلال الرحلة التقى كوتشوك مع إيلى أرجمان وهو شاب إسرائيلى فى الثلاثين من العمر من كيبوتس برورحيل فى النقب الغربى، وكان أرجمان وزوجته وابنتاهما فى رحلة لزيارة عائلته فى البرازيل. قدم إيزاك (زكى) كوتشوك نفسه لعائلة أرجمتان كيهودى من أصل تركى،يتيم ووحيد فى هذه الدنيا بعد أن توفيت والدته.. وهو الآن قرر بناء مستقبله فى إحدى دول أمريكا اللاتينية بعد أن توصل لنتيجة مؤداها أنه لا مستقبل لليهود القليلين الذين بقوا فى مصر، فىظل نظام حكم عبد الناصر الديكتاتورى القمعى. توطدت الصداقة بين اللاجئ اليهودى وعائلة أرجمان الإسرائيلية واستمتعوا معا برحلتهم التى استمرت حوالى أسبوعين، وتعمد كوتشوك أن يطلع العائلة على مجموعة من الصور ضمن ألبومه الخاص الذى حمله معه، ومن بين هذه الصور صورة قبر والدته فى مقابر اليهود بالقاهرة. دخلت قصة الغطاء هذه على عائلة أرجمان بسهولة، وأدرك كوتشوك من جانبه أن لقاء المصادفة مع أرجمان جاء فى صالحه، وأن خطته للوصول إلى (بلد الهدف) إسرائيل دون أن يشك فيه أحد قد تدعمت بمساعدة الأصدقاء الجدد، ومع ذلك لم يبادر من جانبه خلال أحاديثه مع هذه العائلة، بطرح فكرة الهجرة إلى إسرائيل بدلا من الاستقرار فى أمريكا الجنوبية، فقد توقع يعقوبيان أن يبادر أرجمان بطرح هذه الفكرة، وهو ما حدث بالفعل، فقد ظلوا على اتصال مع بعضهم البعض طوال الشهرين اللذين قضتهما العائلة فى البرازيل، وفى مرحلة معينة، عرض أرجمان على يعقوبيان أن يعرفه بممثلى الوكالة اليهودية فى البرازيل، كى يشرحوا له ويرشدوه عن حقوقه والإمكانات المتاحة أمامه كمهاجر جديد إلى إسرائيل. أظهر إيزاك (زكى) كوتشوك ترددا فى البداية، لكنه استجاب فى النهاية لعرض أرجمان الذى رافقه أثناء المقابلة التى جرت فى مكاتب الوكالة اليهودية فى ريودى جانيرو. بعد رحيل عائلة أرجمان إلى إسرائيل لم ينفصل زكى كوتشوك عن البيئة اليهودية التى وجد نفسه فيها، فقد قام بتنفيذ تعليمات رؤسائه فى المخابرات المصرية، وأنشأ علاقات مع الطائفة اليهودية فى البرازيل. ووفقا لتعليمات ضابط المخابرات المصرى المسئول عنه، قام يعقوبيان- كوتشوك بنقل محل إقامته من ريودى جانيرو إلى سان باولو، وهناك أقدم على خطوة أخرى لتدعيم هويته الجديدة، فقد حصل من السلطات المحلية على بطاقة هوية برازيلية بصورة قانونية تماما ومكتوب فيها فى خانة الديانة، وبوضوح تام (يهودى) وبعد أن حصل على مراده عاد إلى ريودى جانيرو ووجد عملا فى محل للتصوير الفوتوغرافى. وفى أواخر عام 1961 توجه زكىكوتشوك إلى مكاتب الوكالة اليهودية فى البرازيل والتى سبق أن زارها برفقة صديقه الإسرائيلى أرجمان، وقدم طلبا للهجرة إلى إسرائيل، فقام الموظفون هناك بفتح ملف باسمه، ولم يمر وقت طويل حتى تمت الموافقة على الطلب، وخرج يعقوبيان- كوتشوك من البرازيل عبر نفس الطريق التى سلكها عند مجيئه إليها، فقد أبحر إلى جنوه فى ايطاليا، وهناك التقى بكل من ضابط المخابرات المسئول عنه والذى قدم خصيصا من القاهرة، والضابط الذى قام بتشغيله من ريودى جانيرو. قام الاثنان بإعطائه التعليمات الأخيرة وتوجيهه بخصوص كيفية اختراق الهدف، والعمل على مهل وبالتدريج، وكان الضابطان بطبيعة الحال يعرفان أن كوتشوك مثله مثل أى مهاجر شاب، سوف يتم تجنيده فى مرحلة معينة بالجيش الإسرائيلى، ولذلك طلب منه أن يبذل كل ما فى وسعه للالتحاق بإحدى الوحدات العسكرية المنتقاة والأفضل أن تكون ضمن سلاح المخابرات وإن لم يكن فسلاح المدرعات. فى منتصف ديسمبر 1961 غادر إيزاك (زكى) كوتشوك ايطاليا وفى 20 ديسمبر وصل إلى ميناء حيفا الإسرائيلى لأول مرة فى حياته وكان آنذاك فى الرابعة والعشرين من العمر وفقا لسنّه الحقيقى، وفى السابعة والعشرين بموجب المستندات المزيفة التى يحملها. ومن ميناء حيفا، سارع زكى كوتشوك بالاتصال بأصدقائه من عائلة أرجمان، وقام إيلى أرجمان بدعوته إلى الكيبوتس وعرض عليه أن يكون ضيفه لعدة أيام، ووافق زكى الذى لا يوجد له أقارب ويشعر بالوحدة على اقتراح أرجمان. وبناء على توصية من أرجمان قامت الوكالة اليهودية بترتيب عملية استيعاب المهاجر الجديد وألحقته بمركز لتعليم اللغة العبرية (أولبان) فى كيبوتس (دوروت) القريب من كيبوتس أرجمان، لكن زكى لم يصمد لفترة طويلة فى الدارسة بالأولبان، فقد اشتكى من أنه لا يريد السكن فى غرفة واحدة مع شخص آخر لا يعرفه وطلب غرفة لنفسه، ولما لم يلبوا طلبه غادر كيبوتس (دوروت) على الفور وطلب إلحاقه بأولبان آخر فى المنطقة. وبتوصية من إيلى أرجمان تم إرساله إلى أولبان فى كيبوتس (نجباه) بنفس المنطقة، وفى إحدى زياراته إلى أرجمان وهى الزيارات التى لم تنقطع حتى بعد انتقاله إلى كيبوتس (نجباه) تصادف أن تواجد الاثنان فى معمل التصوير الخاص بالكيبوتس وأبدى زكى كوتشوك خبرة كبيرة بعملية التصوير والتحميض، وأعطى انطباعا بأنه محترف فى هذا المجال. وفى الحقيقة لم يكن كوتشوك محترفا فى مجال التصوير فقط، ولكن أيضا فى الايقاع بالفتيات الجميلات، فقد وقعت فى هواه إحدى الفتيات من كيبوتس (نجباه) وكانت فى السابعة عشرة من عمرها، وتوطدت العلاقة فيما بينهما رغم معارضة عائلة الفتاة، وفى مرحلة معينة أعلن الاثنان رغبتهما فى الزواج. فى يونيو 1962 وبعد انتهاء الدراسة فى الأولبان تحدث معه المسئولون فى الوكالة عن مشاريعه المستقبلية، فقال لهم فى البداية إنه سوف يدرس إمكانية البقاء فى الكيبوتس والانضمام إلى أعضائه وبعد ذلك قال إنه ينوى إنشاء مشروع خاص به وليكن ستوديو للتصوير، وفى النهاية أعلن أنه تراجع عن كل مشاريعه وقرر أن يلتحق بالجيش الإسرائيلى. وقبل التحاقه بالجيش توجه زكى كوتشوك بطلب مساعدة مالية من الوكالة وطلب مساعدة للحصول على سكن، فأحالوه إلى شركة (عميدار) للإسكان حيث وقع مع الشركة عقد إيجار بالاشتراك مع مهاجر جديد من المغرب يدعى ألبرت عميئيل وتسلم الاثنان بالفعل الشقة رقم 689/1 فى مشروع الإسكان جنوب مدينة أشكيلون (عسقلان). والتحق زكى كوتشوك بالجيش الإسرائيلى فى نوفمبر 1962، وفى قاعدة الاستيعاب والتنصيف طلب أن يتم توزيعه على سلاح المدرعات، لكن فى النهاية وبعد إنهاء فترة التدريب الأولية، تم إلحاقه بسلاح النقل. وخلال فترة التدريب الأولية وأثناء دورة النقل المتخصصة، استمر زكى كوتشوك فى ممارسة (هواية) التصوير فأخذ يلتقط الصور لزملائه ورؤسائه، ودائما ما تكون الصور على خلفية المعسكر الذى يتواجد فيه، وبعد انتهاء دورة النقل فى بيت نباله (بالقرب من اللد) تم تعيينه سائقا شخصيا لضابط كبير من ضباط الجيش الإسرائيلى وهو العقيد شمعياه بخنشتاين ومن خلاله ومن خلال ابنته وزوجته عرف الكثير والكثير. واعتاد زكى كوتشوك أن يقضى إجازاته فى شقته بأشكيلون وأن يزور إيلى أرجمان وأن يقضى بعض الوقت مع صديقته- التى تم تجنيدها فى الجيش هى الأخرى- فى كيبوتس نجباه القريب، وفى أغلب الأحيان كانت تزوره فى شقته. وبعد مرور حوالى عام قضاه داخل الجيش الإسرائيلى، أبلغ زكى كوتشوك رفاقه بأنه ملّ الحياة العسكرية وقرر أن يترك الجيش، وبالفعل ترك الجيش فى أكتوبر 1963 وانتقل للعمل كمصور محترف فى ستوديو (مونى) فى أشكيلون الذى يمتلكه يهودى من أصل مصرى مثله. وفى مساء يوم الخميس 19ديسمبر 1963، وبعد سنتين بالتمام والكمال قضاهما فى إسرائيل، وصل رجال الشرطة ووحدة العمليات التابعة للشاباك برئاسة أبراهام (أبروم) شالوم، الذى أصبح بعد ذلك رئيسا للشاباك، إلى منزل كوتشوك فى أشكيلون، طرقوا الباب ففتح لهم زكى الذى دفعوه إلى الوراء واقتحموا الشقة وقبضوا عليه ووضعوا أيديهم على حقائبه ودولاب ملابسه.. وفى اليوم التالى (الجمعة) جاءت صديقته من الكيبوتس لزيارته وفوجئت بما حدث. واتضح بعد ذلك أن قسم مكافحة التجسس العربى التابع للشاباك كان قد أصدر تعليماته لموظفى البريد فى تلك الفترة بمراقبة أى بريد خارج من إسرائيل، ولم تكن عملية تعقب البريد بالأمر الصعب، خاصة أن عدد سكان إسرائيل فى الستينيات لم يكن يتجاوز الثلاثة ملايين، وقام الشاباك بمساعدة البريد بتعقب خطابات يعقوبيان، ومن خطاب إلى آخر اتضح أن العميل المصرى يقيم فى جنوب إسرائيل، وفى مرحلة معينة تبين أن العميل يسكن فى أشكيلون بالتحديد. وفى أوائل 1964 تم تقديم زكى كوتشوك للمحاكمة فى القدس وحُكم عليه بالسجن لمدة 18 عاما، وبعد رفض الاستئناف أعيد زكى كوتشوك إلى زنزانته فى سجن الرملة لكن لم يبق هناك لفترة طويلة، ففى 29 مارس 1966 خرج من السجن ليركب سيارة كانت فى انتظاره عند البوابة لنقله إلى معبر إيرز عند حدود قطاع غزة، وهناك تم نقله إلى الجانب المصرى بإشراف الأممالمتحدة ومعه اثنان من الفدائيين الفلسطينيين، وفى المقابل تسملت إسرائيل ثلاثة من مواطنيها كان قد ألقى القبض عليهم بالقرب من الحدود.