اضطرنى المرض طوال الأسبوع الماضى أن أتابع الأحداث من شاشات التليفزيون، وبعد مشاهدة عدد من برامج «التوك شو» دعوت الله ألا أضطر إلى ذلك مستقبلا، فالضيوف يتناوبون على تلك البرامج وكأنها «لعبة الكراسى الموسيقية» حيث ترى ذات الشخص يطل عليك من جميع القنوات بنفس الحديث فى ذات الموضوعات المكررة وكأنه أصبحت لدينا وظيفة جديدة اسمها «المتحدث الفضائى» هذا مع ملاحظة أن المواطنين فى الشارع فى واد والإخوة المتحدثين فى الفضائيات فى واد آخر. كما أن الشارع يسبق الإعلام بمساحة كبيرة وكل ما نسمعه أو نراه ليس إلا مجرد «رد فعل» حيث يأتى «الخبراء» للتفسير والتحليل.. ومنهم من يفتى بما ليس له به علم، ومنهم من يصفى حساباته مع النظام السابق أو مع بعض القوى السياسية الأخرى، ومنهم من يبعث «برسائل» مختلفة لأولى الأمر منا! والمشكلة أن كل هذا الكم من البرامج وما يدور فيها يصيب المشاهد بالتشويش والبلبلة، مع أن وظيفة الإعلام الأساسية هى قيادة الرأى العام وإعادة تشكيله فيما يخدم المصلحة العليا للبلاد. وعلى سبيل المثال.. كنت أتابع أحد هذه البرامج وكان المتحدث - وهذه من المرات القليلة - خبيراً فى مجاله وأخذ يشرح نصوص قانون العقوبات التى يحاكم بمقتضاها المتهمون فى بعض القضايا والتى يفهم منها أنه يمكن أن تمثل ثغرات قانونية قد يفلت المتهمون فيها من العقاب إذا دُفع بتلك النصوص أمام المحكمة التى تنظر القضية، فاعترضت الست المذيعة على ذلك بحجة أن القانون مفصل من النظام السابق، ولكن المتحدث أخبرها أن قانون العقوبات صادر عام 1937، أى من أيام حكومة النحاس باشا فى العهد الملكى، وأنه مازالت نصوصه سارية وعلى المحاكم الالتزام بها، وفوجئنا بانفعال المذيعة معلنة أنه لابد أن يأتى القضاة إلى البرنامج لنناقش معهم ذلك، ومرة أخرى يحاول المتحدث إفهامها أن القضاة لا يناقشون القوانين ولا يملكون تعديلها، وإنما هذا من اختصاص المؤسسة التشريعية (البرلمان).. ولكن دون جدوى.. فالست المذيعة مُصرّة على ضرورة إعدام كل أركان النظام السابق ومن والاهم فى ميدان عام! ولم يختلف الأمر فى برنامج آخر وكان يستضيف المفكر المعروف سيد ياسين مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية الأسبق ومعه آخرون.. منهم أحد «ثوار» التحرير والذى كان يتحدث عن محاكمة الرئيس السابق مبارك، وكان من الذين حاكموه فى ميدان التحرير وطالبوا المجلس العسكرى بإحضاره لإعادة محاكمته شعبيا فى الميدان وإلا سوف يذهبون إلى شرم الشيخ «ويجيبوه» بأنفسهم. ووجدت الأستاذ سيد ياسين يسأل الشاب منفعلا: تجيبوا مين؟ وإزاى؟ فيجيبه الشاب: نجيب مبارك، ويعاد السؤال: أنتم مين وصفتكم إيه.. علشان تعملوا كده؟ وتكون الإجابة: نحن نمثل الشرعية الثورية، ألم تسمع عن الشرعية الثورية؟ ولم أر المفكر الكبير منفعلا بهذا الشكل من قبل وهو يقول للشاب: أنت تسألنى أنا عن الشرعية الثورية؟ ألم تسمع يا ابنى عن حاجة اسمها «الشرعية القانونية»، ألا تعلم أن هناك جهات اختصاص للتحقيقات والمحاكمات وأخرى لتنفيذ العقاب إذا قضى به؟ هل تريدون أن يحدث فى مصر الحضارة ما حدث فى أعقاب الثورة الفرنسية؟ حيث دارت المقصلة على الجميع! *** تلك كانت عينات عن حوارات الفضائيات.. مذيعات «مش فاهمة».. أو بتصفى حسابات، أو بتستهلك الوقت المخصص لها على الهواء غير عابئة بمضمون رسالة ما تذيعه على المشاهدين. ومتحدثون أغلبهم غير متخصص، بل إن بعضهم يتصور أن الصوت العالى والمبالغة فى الطلبات قد تصنع له جماهيرية مفقودة! وقد ألتمس العذر لبعض الشباب المتحمس فى التحرير فلدى البعض منهم اعتقاد بأنهم قاموا بثورة وأسقطوا النظام السابق.. ولكنهم لم يحكموا ولم يصلهم شىء من «الكعكة» التى تتقاسمها حاليا الأحزاب القديمة وجماعة الإخوان والتيارات الدينية الأخرى، بخلاف «هواة» السياسة الجدد ورواد الفضائيات، لقد لاحظوا أن غيرهم يجنى ثمار الثورة سواء بالحصول على مناصب أو الظهور الإعلامى المكثف والجماهيرية الواسعة. قد ألتمس العذر لهؤلاء، فبعضهم استشهد له قريب أو صديق، والبعض الآخر أصيب فى المواجهات مع الشرطة، ولم يحصل على التعويض المقرر أو العلاج المناسب، ولكنى مندهش من تصرفات بعض «الكبار» وخاصة رجال القضاء ومنهم الصديق العزيز المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس نادى القضاة السابق، والذى يبدو أنه مقيم بميدان التحرير مع أن مكانه منصة القضاء ليحكم بين الناس بالعدل، فهو رجل قانون ويعلم أنه لا يجوز استباق المحاكمات بضرورة الحكم بعقوبات معينة على المتهمين، هذا خلط للسياسة بالعدالة، وهو يعلم أكثر من غيره أنه لو دخلت السياسة من الشباك هربت العدالة من الباب! وكذلك المستشار هشام جنينة والذى صرح بأن أدلة اتهام مبارك ضعيفة وقد لا تكون كافية لإدانته وخاصة فيما يتعلق بقتل الثوار.. فهل هذا يجوز؟ فماذا تفعل النيابة العامة إذن؟ ألا يُعد ذلك تدخلا فى شئون العدالة؟ وممن؟ من رجال العدالة أنفسهم. لقد عملت محررا قضائيا فترة طويلة واختلطت كثيرا برجال العدالة وأعلم جيدا أنه لا سلطان عليهم غير القانون وأنهم يراعون الله وضمائرهم عند إصدار أحكامهم، ومن ثم تعارف المجتمع على أن «الحكم» هو عنوان الحقيقة، هذا الحكم الذى يصدر بعد محاكمة قانونية علنية عادلة يتاح فيها للمتهم الدفاع عن نفسه بالأصالة أو الوكالة، وتستمع فيها المحكمة لكافة شهود النفى والإثبات وتفحص الأدلة وتستعين بأهل الخبرة الفنية.. هذا ما تعلمناه من رجال القضاء الذين استهوى بعضهم السياسة فانجرفوا إليها بدون تمهل وزاحموا غيرهم فى المظاهرات والوقفات الاحتجاجية.. وهم أصحاب المقام الرفيع.. ومكانهم منصات القضاء العالية، وهو ما يدعونى للتساؤل عن موقف المستشار البسطويسى.. المرشح المحتمل لمنصب رئيس الجمهورية، فمدى علمى أن الرجل يحتل منصب نائب رئيس محكمة النقض وأنه مازال فى الخدمة، فهل حصل على إجازة مفتوحة حتى يتمكن من إجراء الحوارات والجولات الانتخابية وما يتبعها من اتفاقات وتربيطات مع التيارات السياسية المختلفة ليضمن الفوز أو التمثيل المشرف على الأقل؟ فى الحقيقة لا أعلم.. ولكنى متأكد أن مجلس القضاء الأعلى أصدر مؤخراً توصية بعدم ظهور رجال القضاء على شاشات التليفزيون أو المشاركة فى البرامج الحوارية أو حتى المداخلة فيها. فما بالنا وأن البعض منهم «غرقان» فى السياسة بل أعلن أنه مرشح محتمل للرئاسة. فيا أصحاب المقام الرفيع عودوا إلى منصاتكم.. واحكموا بيننا بالعدل واتركوا السياسة لأهلها.