مشكلة الدائرة المغلقة أن معظم الذين يجدون أنفسهم داخلها يتصورون أن الخروج منها يقتضى البحث عن مخرج.. فيظلون يدورون إلى مالا نهاية على أمل إيجاد هذا المخرج.. مستحيل!.. الخروج من الدائرة المغلقة ليس له إلا طريق واحد وطريقة وحيدة: القفز إلى خارجها!.. فإذا تأملنا المشهد فى مصر الآن فسوف نكتشف أننا جميعا وضعنا أنفسنا بأنفسنا داخل دائرة مغلقة.. وأننا جميعا ندور داخلها على أمل أن نجد المخرج.. مرة أخرى مستحيل.. فليس هناك أى مخرج.. وليس أمامنا - إذاأردنا الخروج - إلا أن نقفز خارج هذه الدائرة المغلقة!.. أتحدث عن المرحلة الانتقالية التى تمر بها مصر الآن، والتى يطلق عليها البعض اسم عنق الزجاجة.. فالحقيقة أننا نتعامل معها بمنطق الذين يدورون داخل دائرة مغلقة.. الغريب والمثير للدهشة أننا جميعاً وبدون استثناء نريد عبور هذه المرحلة الانتقالية والخروج من عنق الزجاجة.. كلنا نريد الهروب من الدائرة المغلقة.. لكننا بمنتهى الإصرار لا نفعل أكثر من الدوران داخلها!.. وليس هناك خلاف على أننا جميعاً - مرة أخرى أقول بدون استثناء - نحلم باليوم الذى يعود فيه الاستقرار وننعم فيه بالأمان ونقطف ثمار الحرية والديمقراطية التى زرعت الثورة بذورها.. لكن الغريب أننا كلما اقتربنا.. ابتعدنا!.. بدأنا بالاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وبدلاً من أن نجعل منه نقطة انطلاق لتحقيق الديمقراطية الحقيقية ونتمسك بأنه نموذج على وعى المصريين وقدرتهم على المشاركة السياسية.. إذا بالاستفتاء يتحول إلى أول أسباب الشقاق والانشقاق!.. البعض حاول إضفاء صبغة دينية على الاستفتاء.. وليس هناك فى الواقع مبرر واحد لذلك.. لكنه تحول فجأة إلى استفتاء بين المسلمين والأقباط.. المسلمون قالوا نعم والمسيحيون قالوا لا (!!!).. وسمعنا العجب.. سمعنا من يتحدث عن الاستفتاء فيصفه بغزوة الصندوق.. وسمعنا عن الذين صلوا صلاة شكر للمولى عز وجل لأنه نصر المسلمين فى هذا الاستفتاء!.. وسمعنا عن الذين طالبوا المسيحيين بالتصويت ب «لا» لكى يعرف المسلمون أن مصر ليست ملكهم وحدهم!.. سمعنا الكثير وضرب بعضنا كفا بكف غير مصدق لهذه «المهزلة» التى شارك فيها كثيرون باسم الدين.. ثم راح البعض - ربما بقصد أو بغير قصد - يحاول إضفاء أبعاد سياسية على الاستفتاء فخرجت نظريات تقول إن الذين قالوا نعم هم الأغلبية الصامتة التى ترفض سلوك الثورة والثوار.. وأن الذين قالوا «لا» هم أبناء الثورة الحقيقيون.. ووصل الأمر إلى حد التخوين.. كل فريق يتهم الفريق الآخر بتهمة الخيانة لمصر!.. وكان من المفترض أن ينتهى الاستفتاء بنتيجة واحدة.. انتصار الديمقراطية وانتصار أكبر للشعب المصرى.. لكننا بدلاً من ذلك انقسمنا إلى فرق وعشائر وزاد حجم الشقاق واتسعت مساحة الانشقاق.. ولم يكن ذلك إلا لأننا وضعنا أنفسنا بأنفسنا داخل دائرة مغلقة.. فلما أردنا الخروج منها رحنا نبحث عن مخرج.. فظللنا ندور داخلها!.. ولم نخرج من هذه الدائرة المغلقة إلا بعد أن أدخلنا أنفسنا فى دائرة أخرى مغلقة.. وهكذا اختلفنا حول «الإعلان الدستورى»!.. *** فى أعقاب الاستفتاء على التعديلات الدستورية اشتعل الجدل حول الدستور الموجود.. هل نبقى عليه بعد أن نضيف إليه المواد المعدلة التى طرحت فى الاستفتاء ووافق عليها الشعب.. أم أن هذا الدستور بأكمله لا يصلح ولابد أن نستبدله بدستور جديد؟.. الاختلاف حول هذه المسألة تحول إلى خلاف عميق.. وكان الحل لتجاوز هذا الخلاف وما يمكن أن ينجم عنه من آثار هو الإعلان الدستورى الذى صدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. الإعلان الدستورى تضمن المواد السبع التى تم تعديلها والاستفتاء عليها مضافا إليها عدد غير قليل من المواد الأخرى.. وكانت وجهة نظر المجلس الأعلى أن هذا الإعلان الدستورى بهذه الكيفية كاف لكى نعبر به المرحلة الانتقالية ونمر من عنق الزجاجة.. المواد المضافة والتى لم يجر عليها أى استفتاء هى فى الحقيقة مبادئ أساسية نحتاجها لإجراء الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية.. وهى ضرورية أيضاً لتسيير الأمور والأعمال خلال الفترة الانتقالية.. ومن ثم لم تكن هناك أى حاجة للاستفتاء عليها.. أما المواد التى تم تعديلها والاستفتاء عليها فكان من الاستحالة العمل بها فى الانتخابات القادمة لأنها فصلت لتحقيق التوريث ولأنها تقيد الحريات وتمنع المصريين من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.. المسألة ببساطة أن الإعلان الدستورى هو أبسط وأسهل صيغة يتحقق معها نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى رئيس منتخب.. بعدها لن يكون هناك إعلان دستورى وإنما سيكون هناك دستور جديد.. ورغم ذلك احتدم الخلاف حول الإعلان الدستورى.. وسمعنا من يقول إن الجيش خدعنا وكان يجب أن يتم الاستفتاء على «كل» المواد التى تضمنها الإعلان الدستورى وليس فقط المواد التى تم تعديلها.. ومضى البعض إلى ما هو أبعد فقال إن الإعلان الدستورى «كله» باطل!.. مرة أخرى دخلنا دائرة مغلقة.. ومرة أخرى رحنا ندور داخل هذه الدائرة.. ومرة أخرى خرجنا منها لندخل دائرة مغلقة أكبر اسمها «الدستور أولاً»!.. *** فجأة ارتفعت أصوات تطالب بتأجيل الانتخابات والبدء بإعداد الدستور الجديد أولاً.. الذين قالوا نعم فى الاستفتاء على التعديلات اعتبروا مثل هذه الدعوة التفافا على إرادة الشعب.. واحتدم الخلاف بين الفريقين.. فريق يطالب بالدستور أولاً وفريق يطالب بالانتخابات أولاً.. ومرة أخرى يزيد حجم الشقاق وتتسع مساحة الانشقاق.. وعندما تأتى الدعوة لجمعة 8 يوليو يتفق الجميع على تجنب هذا الخلاف والاختلاف.. ويتوافق الجميع على الا تكون مسألة الدستور والانتخابات من المسائل المطروحة فى ميدان التحرير ويلتزم الجميع - إلا قليلا - بهذا الاتفاق والتوافق.. ولأول مرة نخرج من الدائرة المغلقة بالطريقة الصحيحة.. القفز إلى خارجها.. لكننا سرعان ما انتقلنا إلى دائرة مغلقة.. أكبر وأخطر!.. *** يطرح البعض فكرة المبادئ فوق الدستورية.. أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم المبادئ الحاكمة للدستور.. وتتلخص الفكرة فى الاتفاق على عدد من المبادئ الدستورية لابد من وجودها فى أى دستور ولا تستطيع أى لجنة تأسيسية يتم الاتفاق عليها لوضع الدستور.. الاقتراب منها!.. ليس سرا أن أصحاب هذه الفكرة والمؤيدين لها يخافون من أن يسيطر الإسلاميون على البرلمان الجديد.. ومبعث الخوف أن هؤلاء الإسلاميين هم الذين سيختارون أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور.. ومن ثم فإن الدستور سيأتى على هوى الإسلاميين وحدهم ولن يكون معبرا عن التيارات السياسية الأخرى وخاصة التيارات الليبرالية.. الفكرة بشكل أو بآخر لها من يؤيدها ومن يعارضها.. ومن الطبيعى أن تؤيدها القوى السياسية التى تخاف من سيطرة التيار الإسلامى وخاصة الإخوان.. ومن الطبيعى أيضاً أن يعارضها التيار الإسلامى.. الإخوان أو التيار الإسلامى عموما لا يعارضون الفكرة لأنها ستقف حائلا بينهم وبين وضع دستور مفصل على مبادئهم.. ولكنهم يتصورون أن من حقهم أن يلعبوا دور البطولة على المسرح السياسى بعد أن ظلوا سنوات طويلة مختفين وراء الستار!.. وفى رأيهم أن وضع مبادئ دستورية قبل وضع دستور.. هو محاولة لتهميش دورهم!.. المشكلة من الذى يضع هذه المبادئ فوق الدستورية؟!.. بعض القوى السياسية قدمت وثائق مختلفة تتضمن تصورها لهذه المبادئ الحاكمة لأى دستور.. والمجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحيته لم يعترض لكنه اشترط أن يكون هناك توافق عام على هذه المبادئ فوق الدستورية.. فطلب أن تكون هناك وثيقة واحدة.. ويتم الاتفاق على مجلس وطنى يمثل مختلف القوى والتيارات السياسية لوضع تصور لوثيقة تضم المبادئ الدستورية الحاكمة.. وحتى الآن تبدو مساحة الاختلاف أكبر من مساحة الاتفاق.. ثم إن تيار الإخوان والتيار الإسلامى عموما يرفض الفكرة ومن ثم فقد رفض الانضمام لهذا المجلس الوطنى.. وأكثر من ذلك.. فقد اعتبر أحد الرافضين من التيار الإسلامى لفكرة المبادئ فوق الدستورية.. اعتبر أن الفكرة التفافا على إرادة الشعب.. سيتم التصدى لها بالدماء والدخول فى معركة «لا تبقى ولا تذر» على حد تعبيره!.. خلاف واختلاف قد يتحول إلى صراع وصدام.. دائرة مغلقة أخرى لا نعرف كيف نخرج منها ولا نفعل أكثر من الدوران داخلها!.. *** عندما تحدثت فى البداية عن الطريقة الصحيحة والوحيدة للخروج من أى دائرة مغلقة.. قلت إن هذه الطريقة هى القفز خارجها.. لماذا لا نفعل..؟ لماذا لا نتجاوز كل هذه الخلافات والمشاحنات والانشقاقات؟.. لماذا نظل أسرى الخوف من العودة إلى الماضى؟.. هل سمعنا يوما أن عقارب الساعة عادت إلى الوراء؟!..