أقفز على الحدث الرئيسى والأهم هذا الأسبوع وأتجاوزه مؤقتا.. وهو الحدث الذى أثار فى نفوسنا جميعا الخوف والرعب على مصر والمصريين.. الحدث الذى أقصده بالطبع هو هذا الصدام المروع الذى شهده ميدان التحرير والشوارع المحيطة به بين متظاهرين وقوات من الشرطة، والذى كان من نتائجه إصابة أكثر من ألف شخص.. ليس مهما إن كانت نسبة الإصابات أعلى بين قوات الشرطة أو بين المتظاهرين فكلهم مصريون.. وإنما المهم أن الصدام كان داميا ومخيفا.. ينبئ بما لا يحمد عقباه ويفتح الباب للفوضى المدمرة.. وليس عندى سبب لتجاوز هذا الحدث مؤقتاً إلا أن حقائقه لاتزال غائبة وغير معروفة وغير مفهومة.. ولا أريد أن أقع فى خطأ إصدار أحكام مسبقة واستخلاص نتائج مبنية على أقاويل وشائعات.. قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة.. أقفز على الحدث وأتجاوزه مؤقتاً كما قلت.. لكن أبقى قريباً منه.. ذلك أن أخطر ما يمكن أن ينجم عن مثل هذا الحدث الدامى هو الفوضى المدمرة التى يمكن أن تصيب مصر.. لكن الحقيقة أن هناك أسبابا أخرى تؤدى لحدوث هذه الفوضى المدمرة.. أسبابا ليس بالضرورة أن تكون صدامات وحجارة وزجاجات مولوتوف ورصاصا مطاطيا وقنابل مسيلة للدموع!.. أقترب من هدفى أكثر وأقول إن الانشقاقات والاختلافات والانقسامات فى هذا التوقيت لا تقل خطورة عن الصدامات الدامية والرصاص والقنابل والحجارة.. فهى أيضاً تقودنا إلى الفوضى المدمرة!.. أحد النماذج على تلك الانشقاقات والانقسامات والاختلافات اختراع اسمه «الدستور أولاً».. والذى أصبح شاغلنا الشاغل ومحور أحاديثنا ومناقشاتنا.. وخلافاتنا!.. كتبت فى الأسبوع الماضى عن هذه القضية وتساءلت: لماذا نصعّب الأمور على أنفسنا ونعقدها؟.. تماما كما فعل بنو إسرائيل عندما أمرهم الله بذبح بقرة فراحوا يسألون فى تفاصيل التفاصيل.. وكلما أجابهم الله تساءلوا أكثر حتى اعترفوا بعجزهم وبأن البقر تشابه عليهم!.. كتبت وقلت إن الاستفتاء الذى تم على التعديلات الدستورية والذى أعقبه صدور الإعلان الدستورى.. كان موافقة من الشعب على خريطة الطريق التى حدد المجلس الأعلى للقوات المسلحة ملامحها واتجاهاتها.. وعندما يأتى الآن من يطالب بتأجيل الانتخابات وإعداد الدستور أولاً فكأنه يريد أن يلغى إرادة الشعب ويلتف عليها.. مع أنه ليس هناك سبب جوهرى لذلك.. فالدستور أولاً أو ثانياً ليس هو المهم وإنما المهم أن نخرج بسرعة من حالة عدم الاستقرار التى تمر بها مصر والتى يمكن أن تتحول إلى فوضى مدمرة.. المفارقة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه لا يملك إلغاء إرادة الشعب والالتفاف عليها طبقاً للقانون.. واقرأ معى الفتوى القانونية التى أصدرها المستشار الدكتور محمد أحمد عطية النائب الأول لرئيس مجلس الدولة ورئيس الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع.. تقول الفتوى إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يملك الخروج على أحكام المادة 60 من الإعلان الدستورى التى تنص على أن «يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسى شعب وشورى فى اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال 6 أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد فى موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيله».. قضى الأمر الذى فيه تستفتيان.. الشعب قال كلمته واختار.. والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يحكم البلاد مؤقتاً ينفذ إرادة الشعب.. والقانون يلزمه بذلك.. لماذا نختلف؟.. ولماذا نفتح الباب لانقسامات وانشقاقات يمكن أن تحدث فتنة تقودنا بدورها إلى صدام تعقبه فوضى؟! لماذا نصعّب الأمور على أنفسنا ونعقدها.. إذا كنا جميعا نبحث عن الاستقرار؟.. لماذا نقلد بنى إسرائيل؟!.. *** الغريب أن هناك إصراراً على المضى قدما فى طريق الانشقاق والانقسام والاختلاف.. والفتنة!.. فى البداية خرجت مجموعة من الشباب وبعض المنتمين للأحزاب والتيارات السياسية المختلفة وعلى رأسهم الجمعية الوطنية للتغيير.. خرجوا جميعاً يطالبون بتأجيل الانتخابات لحين الانتهاء من إعداد الدستور أولاً.. وعندما لم تجد دعواهم صداها عند المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدأت محاولات الضغط.. سمعت شابا يتحدث فى أحد البرامج الحوارية فى إحدى الفضائيات ويقول: إذا لم يوافق المجلس الأعلى للقوات المسلحة على أن يكون الدستور أولاً فموعدنا يوم الجمعة القادم فى ميدان التحرير لكى يصل إليه مطلبنا!.. ويجىء يوم «الجمعة القادم» ويضع الناس أيديهم على قلوبهم خوفا من أن تتطور الأمور إلى صدام.. لكن الجيش والشعب معا يقرران تجاوز الأزمة!.. وتبدأ محاولة ثانية لتحقيق مطلب «الدستور أولاً».. تبدأ حملة لجمع 15 مليون توقيع.. تؤيد تأجيل الانتخابات لحين الانتهاء من إعداد الدستور أولاً.. لكن الحملة لم تنجح.. رقم ال 15 مليون مقصود طبعاً.. لأن الذين قالوا نعم فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية وإجراء الانتخابات أولاً يبلغ عددهم 14 مليون مواطن.. كأن القائمين على حملة جمع التوقيعات يقولون إننا أجرينا استفتاء أكبر وأعم وأشمل!.. المهم أن حملة جمع توقيعات «الدستور أولاً» لم تنجح فى تحقيق هدفها.. أو حتى الاقتراب منه.. وهو ما يؤكد أن إجراء الانتخابات أولا وقبل إعداد الدستور.. مطلب شعبى.. وتستمر المحاولات ونسمع عن «حلول وسط»!.. *** طرح الدكتور محمد البرادعى المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة مشروع وثيقة المبادئ والحقوق الأساسية.. أو ما يطلق عليها اسم المبادئ فوق الدستورية.. مشروع الوثيقة ينقسم إلى قسمين رئيسيين.. المبادئ الأساسية.. والحقوق الأساسية.. فيما يتعلق بالمبادئ فإن مشروع الوثيقة يتضمن 6 مواد تتحدث عن نظام الدولة وعن المصدر الرئيسى للتشريع فيها وعن النظام السياسى الذى لا يتعارض مع المواطنة وعن سيادة القانون وعن وضع القوات المسلحة وعن التزام الدولة بتوفير حياة كريمة لكل مواطن.. أما فيما يتعلق بالحقوق فإن مشروع الوثيقة يتضمن 11 مادة تتحدث عن تساوى المصريين فى الحقوق والواجبات وعن حرية العقيدة وحرية الرأى وحرية التنقل والإقامة وحرية التملك وحق العمل والتعلم والبحث عن المعلومات وتلقيها ونشرها.. وغيرها من الحقوق.. أما المادة رقم 11 على وجه التحديد فإنها تنص على أن هذه الوثيقة جزء لا يتجزأ من الدستور والحقوق الواردة فيها غير قابلة للإلغاء أو التعديل.. ويشكل انتهاك أى من هذه الحقوق أو التحريض على انتهاكها جريمة ضد الدستور.. ما هو الهدف الحقيقى من هذه الوثيقة؟.. ما هو هدف المبادئ فوق الدستورية؟.. ما هو المعنى؟!.. *** أول ما يتبادر للذهن أن هذه الوثيقة التى تنص مادتها الأخيرة على أنها جزء لا يتجزأ من الدستور.. هى الدستور نفسه!.. وكيف لا تكون وليس فى استطاعة أحد تغييرها أو تغيير أى مادة فيها.. حتى اللجنة التأسيسية التى تنحصر مهمتها فى إعداد الدستور الجديد..! والسؤال كيف نوافق على دستور يضع مبادئه الأساسية شخص واحد؟!.. ثم لماذا نقيد اللجنة التأسيسية المفترض أن مهمتها وضع دستور جديد.. لماذا نقيدها بمبادئ مسبقة؟!.. أضف لهذا كله أن الدكتور محمد البرادعى يدعو إلى استفتاء عام على هذه المبادئ فوق الدستورية.. فهل ننظم استفتائين للدستور.. استفتاء لهذه المواد فوق الدستورية.. واستفتاء بعد ذلك للدستور؟!.. أليست هذه الوثيقة التى يعتبرها البعض حلا وسطا هى محاولة جديدة لفرض مبدأ «الدستور أولاً»؟!.. وجهة نظر الذين يؤيدون مبدأ الدستور أولاً هو تخوفهم من أن يسيطر تيار بعينه على البرلمان.. ومن ثم فإن هذا التيار هو الذى سينتخب أعضاء اللجنة التأسيسية التى ستتولى إعداد الدستور.. ويفترض الذين يطالبون بالدستور أولاً أن التيار الذى سيسيطر على البرلمان وينتخب اللجنة التأسيسية هو الذى سيحدد شكل الدستور.. وهم لا يخفون خوفهم من ذلك ويعلنون صراحة أن الانتخابات أولاً ستأتى بالتيار الإسلامى أو الإخوان تحديداً.. وهؤلاء هم الذين سيضعون الدستور!.. الافتراض فى الحقيقة يفتقد للدقة.. لأن الدستور - بغض النظر عن الذين سيقومون بإعداده - سيخضع للاستفتاء العام حتى يأتى معبرا عن إرادة الشعب.. ثم إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أعلن بكل وضوح أنه سيدعم ويضمن وضع دستور وطنى يحمى مدنية الدولة ويعلى قيمة المواطنة.. فلماذا نخاف؟.. ولماذا نلتف على إرادة الشعب؟.. ولماذا نسمح بأن يضع شخص واحد الدستور؟!.. لماذا نصعّب الأمور على أنفسنا ونعقدها ونقلد بنى إسرائيل؟!.. *** الديمقراطية التى يتحدث عنها الجميع تعنى احترام إرادة الشعب.. والشعب قال كلمته فى الاستفتاء واختار الطريق الذى رسم ملامحه المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. أى طريق آخر سيفتح الباب لانشقاق وخلاف وانقسام.. وفتنة تقودنا إلى فوضى!