صاحب أشهر «طلة» فى مجموع صور الشهداء التى تملأ الميادين وزجاج الميكروباص الدائر فى شوارع القاهرة.. صاحب الوجه الضاحك الذى أصبح يزين أسرّة الأطفال وغرف نوم الشباب ويتدلى مع العلم فى العديد من شرفات المنازل، ثم تراه يرفرف كفرخ الحمام السابح وراء دراجات البسطاء، كثيراً ما كنت أنظر إليه وأتعجب من تلك الضحكة التى غيبها الموت وأتساءل: من هو؟ حتىجمعتنى به المصادفة وأنا أتابع حفل تكريم شهداء الفن التشكيلى الذى أقامته هيئة قصور الثقافة منذ أيام. لست أدرى من أين أبدأ! من عنده؟ الفنان أحمد بسيونى المدرس المساعد بكلية التربية الفنية؟ أم من عند زياد بكير، الفنان المحترم المحبوب الذى كّرمته دار الأوبرا وكرّمه زملاؤه وأقاموا عرضا موسيقيا على شرفه، زياد بكير صاحب أجمل لوحات البوستر التى زينت حفلات الأوبرا، والذى صعدت روحه إلى بارئها وهو يدافع عن المتحف المصرى فى لحظات احتراقه ونهبه؟ أم من عند محمد محروس الذى احتسبته أسرته عند الله وطوت حزنها العظيم على وجع الأكباد ورفضت الاستجابة لتكريمه فى الدنيا واكتفت بوادعه فى جموع الشهداء؟. محمد محروس تخرج منذ عام فى الفنون التطبيقية بجامعة 6 أكتوبر، ربما كانت أمامه فرصة للاشتراك فى صالون الشباب الثانى والعشرين والذى يعقد فى أكتوبر القادم ولكنها إرادة الله.. سألت الدكتور هيثم عبد الحفيظ مدير قطاع الفنون التشكيلية بهيئة قصور الثقافة التى كرمت فنانيها الشهداء.. لماذا لم تحضر أسرة الشهيد؟ قال: اتصلنا بشقيقه عدة مرات وبإلحاح ولكنه أغلق تليفونه!! كان المصاب لا يحتمل، وإذا حاولت أن نستعرض سريعا ما تركوه لنا من أعمال فنية فسوف تكتشف للوهلة الأولى أنهم كانوا جميعا محبين للحياة، صورهم الضاحكة، أحلامهم التى توقفت فى منتصف العمر، آخر اللحظات، الطريق إلى الموت، إلى السماء، كلها تقول إنهم كانوا محبين للحياة.. يلفت نظرى جدا ذلك العمل الفنى الذى تركه أحمد بسيونى اسمه: «يوم الميلاد .. يوم الموت» وهو أشبه بغرفة محاطة بستائر وردية حريرية داخلها مهد والمهد حوله بنادق بأعداد كبيرة ويصاحب العمل صوت طفل يصرخ صرخة الميلاد ورنين بعيد لصوت دقات السبوع ثم طلقات نارية تستمر للحظات ويعقبها صوت مولود جديد..، فرغم كل مظاهر القهر والخطر المحدق بنا هناك أمل جديد يولد كل لحظة هكذا شعرت بالعمل، ولكن الأغرب من ذلك أن صاحب العمل قد تم اغتياله ببنادق القناصة فى أسعد لحظات حياته وأخطرها وهو يوثق بكاميرته الخاصة أحداث الثورة ، لقد اقترب .. اقترب جدا ليسجل صورة ذلك القناص الذى كان يصطاد ضحاياه فى منطقة المجمع وقصر العينى .. واستطاع عن طريق عدسة الزووم أن يعرف اتجاه حركة البندقية فى يد القناص وأنقذ عدة أشخاص حوله من الموت، ولكن ذلك القناص كان قد عرف طريقه وأطلق عليه رصاصته القاتلة، وعندما سقط جاءته سيارة أمن مركزى لتدهسه مرتين لتفجر الرئة وينفجر القلب الكبير المحب للحياة .. لأسرته والده.. والدته..زوجته.. طفليه .. أخوته تلاميذه وتلميذاته فى كلية التربية الفنية بجامعة حلوان.. ، ولكن أحمد بسيونى قال فى عمله الفنى إن الحياة دائما متجددة وإن صرخة الميلاد دائما ما تعقب طلقات الرصاص، فى نفس اليوم الذى يموت فيه أحمد بسيونى شهيد الوطن يكون طفل جديد فى محاضر الميلاد، كانت شقيقته تضع مولودها لتتحقق النبوءة !! كانت لفتة جميلة من هيئة قصور الثقافة التى تأجل حفل تكريمها للشهداء عدة مرات لأن وزير الثقافة الذى كان مسافرا خارج مصر طلب أن يحضر بنفسه هذه اللمسة الجميلة من زملاء الفن الرفيع، أغر ورقت عيناه بالدموع وهو يصافح والد الفنان أحمد بسيونى الذى لم يستطع أن يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء، وكاد يفقد هو الآخر تماسكه عندما كادت والدة زياد بكير أن تستجيب للحظة انهيار إنسانى تجاوب معها جميع الحضور، ومع كل هذا الألم تمنيت أن يقام هذا التكريم فى كل الدول.. فى كل موقع.. لكل اسم شهيد سقط، وقد أسعدنى جدا اهتمام بعض الأحياء والمدارس بتزيين جدرانها وتزيين الميادين المهمة بصور الشباب من شهداء الحى، ولست أدرى من الذى أطلق تعبير: الورد اللى فَتحّ فى جناين مصر، ولكننى حقا شعرت بأن هذه الصور المتناثرة وكأنها زهور الربيع الفواحة، وتذكرت والدة أحمد بسيونى حينما قالت إنها نزلت ميدان التحرير بعد وفاة ابنها بأيام، وفى يوم جمعه الرحيل، هذه السيدة قالت جملة لا تعرفها إلا أم، قالت متعجبة مؤكدة: شممت رائحة إبنى فى الميدان!! أحمد بسيونى فنان صوتى بصرى ولد عام 1978 وحصل على ماجستير فى فلسفة الفن ودراسات فى مجال فن الصوت الرقمى والالكترونيات. ويقول عنه الفنان شادى النشوقاتى إنه قدم ورشة مستقلة فى التجرييب فى فن الصوت الرقمى كأول البرامج التعليمية ذات التجاه التجريبى لذلك النوع من الفنون فى مصر، وقد ابتكر برنامجا يعتمد على إكساب الطلاب مهارات إبداعية تقوم على تدريب القدرات البصرية لدى الطلاب لإدراك مادة الصوت وتنمية القدرات التخيلية لتلك المادة السمعية وتحويلها إلى صور افتراضية أو مجردة قد يتلاعب بها الدارسون باستخدام الوسائل التكنولوجية كالميكروفونات الحساسة والبرامج الرقيمية التى تتعامل مع مادة الصوت. وحفل قصور الثقافة لتكريم هؤلاء الفنانين لم يكن الأول بل قامت مجموعة من الفنانين التشكيليين عددهم 28 فنانا بعمل معرض خاص فى شهر مارس الماضى خصص دخله لصالح أسرة الراحل أحمد بسيونى. على فكرة اللوحات التى عرضت بيعت بالكامل، وهى مصادفة لا تتكرر كثيرا؟ سألت الفنان الدكتور هيثم عبد الحفيظ: لماذا خصص دخل المعرض لصالح أحمد بسيونى فقط؟! قال بأسى: لأن الفنان زياد لم يكن أحد يعلم شيئا عنه حتى هذا الوقت. أما محمد بكير وكيل وزارة السياحة سابقا والذى عمل ملحقا سياحيا بسفارتنا فى ألمانيا فيقول عن ابنه زياد: تخرج فى كلية الفنون الجميلةعام 1995، وكان يعمل كفنان للجرافيك يتولى تصميم البوسترز الخاصة بالحفلات وكتيبات العروض بدار الأوبرا. ويحكى عن اليوم الأخير معه فيقول: كان يوم جمعة الغضب 28 يناير، قبلها كان مصابا بالأنفولونزا فلم يستطع النزول للشارع، لكن فى هذا اليوم صلى الجمعة وعاد يستأذن والدته: أنزل؟ اشارت إليه برأسها بالموافقة، نزل من البيت وأخذ يجرى ليلحق بمظاهرة كانت متجهة من سفنكس إلى ميدان التحرير، ودى كانت آخر مرة نشوفه، آخر مشهد البلكونة ..بعدها اختفى، زياد بكير أب لثلاثة أطفال: حبيبة 11سنة، أدهم 8 سنوات، أحمد 6 سنوات أخبرنا أحد أصدقائه الذين كانوا معه فى الميدان أنهم سمعوا من ينادى ويستغيث بالشباب: الحقوا المتحف بيتحرق، جرى زياد مع مجموعة ليحموا المتحف حتى قبل أن تصل قوات الجيش، ولكن أحدالقناصة اصطاده ببندقيته من البنايات المحيطة بالمتحف، اخترقت الرصاصة صدره من أعلى أصابت الرئة واخترقت الكلى، للأسف شخص ما جرده بعد الحادث من كل متعلقاته، 43 يوما وهو موجود بالمشرحة دون أن نعرف عنه شيئا، حتى اتصل بنا شخص كان يبحث عن قريب له وقال: هناك جثة تشبه زياد، ذهبنا فلم نتعرف عليه، بعد 43 يوما كانت الملامح قد تغيرت، كل شئ تغير.. اللون والشكل والعلامات الشخصية، ولكن بعد عمل تحليل DNA تم التعرف عليه، وخرجت جنازته فى موكب مهيب ملفوفا بعلم مصر. لم أستطع أن أجهد والد الشهيد أكثر من ذلك ولكننى طلبت منه أن يرسل إلى مجموعة من أعماله فأرسل لى أكثر من مائة وخمسين صورة.. قراءة سريعة لهذا المخزون من الصور الشخصية والفنية ترسم لوحة رومانسية لفنان يعشق الحياة والطبيعة، عميق الإحساس، رزين، تحيطه هالة صوفية، حتى فى صور البوسترز تجد هالة من الوجد والتوحد مع العمل الفنى الذى يقدم له فى لوحته. براءة جميلة فى عيون أطفاله الذين حضروا حفل تكريمه فى دار الأوبرا والذى قدم فيه فريق أوركسترا القاهرة السيمفونى حفلا على شرف زياد بكير من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وعلق بوستر كبير لزياد مكتوب عليه بالانجليزية: شهيد ثورة 25 يناير 2011. *** كتب الفنان ياسر سلطان يحكى تفاصيل آخر ليلة من حياة أحمد بسيونى، حكى أنه كان مصابا فى ظهره إثر ضربات العصى التى نالها من جنود الأمن المركزى، لذلك ابتعد عن سريره ونام خارج غرفته حتى لا تشعر زوجته بالآلام التى يعانى منها، وقبل نزوله المظاهرات كتب فى صفحته على الفيس بوك ينصح أصدقاءه وتلاميذه أن يحمل كل منهم زجاجة خل وضمادات لاستخدامها عند إلقاء القنابل المسيلة للدموع، نصحهم بأنبوب دوكو سيارات أسود لرشه على زجاج سيارات الأمن لتعطيل وإرباك السائق، وقال فى النهاية: انزل.. ما تخافش.. كن قويا.. أما آخر كلماته فكانت لابنه آدم - 6 سنوات - : خد بالك من ماما واختك سالمة، وودع زوجته على السلم: أنا عارف إنى هاستشهد النهاردة *** منحنى الدكتور هيثم عبد الحفيظ مجموعة أخرى من الصور لأعمال أحمد بسيونى، فى الحقيقة إننا بحاجة لمعرض خاص لأعمال زياد وبسيونى، ملامح فن رفيع رسمتها نفوس رفيعة عالية آمنت بالوطن.. بالحق .. بالله.