كأننا نقلد بنى إسرائيل!.. أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يذبحوا بقرة لكى يستخدموها فى الكشف عن الجانى فى جريمة قتل.. فإذا بهم يصعبون الأمور على أنفسهم ويضعون أنفسهم بأنفسهم فى متاهة من الحيرة.. فيصعبها عليهم الله أكثر وأكثر!.. طلب الله منهم كما جاء فى القرآن الكريم فى سورة البقرة أن يذبحوا بقرة.. ولو أنهم فعلوا وذبحوا أى بقرة لكان فى ذلك كفاية واستجابة لأمر الله.. لكنهم بدلاً من ذلك طلبوا من النبى موسى أن يسأل ربه: ما هى هذه البقرة؟.. فيرد الله عليهم بأنها بقرة لا فارض ولا بكر أى لا مسنة ولا فتية فيعودون ويصعبون الأمور على أنفسهم أكثر ويتساءلون عن لونها.. فيرد الله عليهم: بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.. لكن بنى إسرائيل يتمادون فى تصعيب الأمور على أنفسهم ويطلبون من النبى موسى أن يدعو ربه ليبين لهم ما هى.. “إن البقر تشابه علينا”!.. وهكذا نفعل بأنفسنا فى مسألة الانتخابات والدستور.. نصعب الأمور على أنفسنا ونضع أنفسنا بأنفسنا فى متاهة من الحيرة.. ونعود إلى الوراء خطوات أكثر من التى تقدمنا بها للأمام!.. صحيح أن مسألة الانتخابات والدستور بعيدة كل البعد عن أوامر الله ونواهيه، وأن الاستفتاء والتعديلات الدستورية ليست قرآنا.. لكننا اتفقنا جميعاً وتوافقنا على إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً ثم الرئاسية ثم يتم بعد ذلك تعديل الدستور.. وكان هذا الاتفاق والتوافق لأننا رأينا فى هذا الترتيب أقصر وأسرع طريق لتحقيق الاستقرار والخروج من مستنقع الفوضى وعبور عنق الزجاجة والانطلاق بمصر إلى الآفاق التى نحلم بها جميعاً. وبدلاً من أن نمضى معاً فى الطريق الذى اخترناه بإرادتنا واتفقنا وتوافقنا عليه.. إذ بنا نصعب الأمور على أنفسنا ونضع أنفسنا بأنفسنا فى متاهة من الحيرة ونخلق لأنفسنا مشكلة جديدة تهددنا بانقسام لا يحمد عقباه وصراعات لا يضمن أحد نتائجها!.. بدلاً من أن نمضى معاً فى الطريق الذى رسم ملامحه واتجاهاته الاستفتاء الذى تم على التعديلات الدستورية فى مارس الماضى نجد من يتساءل: ولماذا لا نبدأ بتغيير الدستور؟.. لماذا لا نرجئ الانتخابات؟.. ويتحول السؤال إلى مطلب ودعوة تجد من يؤيدها.. وتنقسم الآراء وتختلف ويتحول الخلاف إلى اختلاف.. ويتصاعد الخلاف وتزيد مساحة الاختلاف فتسمع عن حملة لجمع توقيعات مؤيدة لمبدأ الدستور قبل الانتخابات.. وعلى الجانب الآخر تسمع من يقول إن المطالبين بوضع الدستور أولاً.. هم «شياطين الإنس»، وإن مثل هذه الدعوة تمثل فساداً وانقلاباً على رأى 14 مليون مصرى قالوا نعم فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وتسمع تبريرات كثيرة للذين يطالبون بإرجاء الانتخابات والتفرغ لإنشاء دستور جديد أولاً.. تسمع من يقول إن إجراء الانتخابات فى هذا الوقت مستحيل بسبب الانفلات الأمنى.. أو أن إرجاء الانتخابات يعطى الفرصة لنضج عدد أكبر من الأحزاب السياسية الجديدة.. وأشياء من هذا القبيل. ومن الممكن تفهم وجهات نظر الذين يريدون الانقلاب على الاستفتاء والبدء بالدستور أولاً.. من الممكن تفهم أن الوضع الأمنى يمثل نوعاً من الخطر أو المخاطرة بالانتخابات.. وأن الأحزاب السياسية الجديدة فى حاجة ملحة للوقت لكى تنضج وتصبح قادرة على المنافسة.. لكن الحقيقة أن البدء بالدستور أولاً يضعنا ويضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. ويضع مصر كلها فى إشكالية خطيرة!.. *** كيف سيتم إعداد الدستور الجديد؟!.. الدستور كما هو معروف يتم إعداده من خلال لجنة تأسيسية يتم اختيار أعضاءها بواسطة مجلس الشعب.. لكننا نتحدث هنا عن دستور يتم إعداده قبل أن يكون هناك مجلس شعب.. فمن الذى سيختار أعضاء اللجنة التأسيسية التى ستقوم بإعداد الدستور؟!.. أمامنا احتمالان لا ثالث لهما.. إما أن يتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسئولية اختيار أعضاء هذه اللجنة التأسيسية.. وإما أن يتم انتخاب أعضائها من خلال انتخابات عامة.. انتخابات عامة لاختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور.. وإما انتخابات عامة لاختيار أعضاء مجلس الشعب.. ليس هناك فارق كبير.. كلها انتخابات عامة وكلها تتأثر بالوضع الأمنى.. ومعنى ذلك إذا سلمنا بحجة إرجاء الانتخابات بسبب الوضع الأمنى أن يتولى الجيش مسئولية اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور.. وهذا هو الخطر الأكبر!.. لم يسلم المجلس الأعلى من انتقادات كثيرة وجهت إليه بسبب اختيار 12 عضوا لعمل التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها.. وسمعنا من يقول إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعمد اختيار أعضاء لجنة التعديلات من التيار الإسلامى.. كأنه يريد أن يقول إن الجيش انحاز للتيار الإسلامى!.. الجيش تعرض للانتقادات لمجرد اختيار لجنة محدودة العدد لتعديل بضع مواد دستورية.. فما بالك بالانتقادات التى يمكن أن يتعرض لها عند اختيار لجنة تأسيسية يزيد عدد أعضائها على مائتى عضو؟!.. الانتقادات بالطبع ستفتح الباب لخلافات واختلافات بين الجيش وبين تيارات سياسية مختلفة.. فلماذا نفتح هذا الباب؟!.. وفى كل الأحوال لن يسلم الجيش من الانتقادات.. حتى لو وافق أن يكون الدستور أولاً!.. *** عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعمل التعديلات الدستورية.. كان الهدف أن يتم اختيار الرئيس الجديد المنتخب على أسس جديدة لا تسمح بتكرار ما حدث أيام الرئيس السابق حسنى مبارك.. خاصة السلطات المطلقة التى يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية.. وعندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإجراء الاستفتاء على تلك التعديلات الدستورية كان الاستفتاء يعنى فى نفس الوقت استفتاء على خريطة طريق الجيش لتسليم السلطة.. انتخابات تشريعية تعقبها انتخابات رئاسية ثم دستور جديد.. ومعنى ذلك أن الذين قالوا نعم - وقد بلغت نسبتهم 78% أى الأغلبية الساحقة - قالوا نعم للتعديلات ولخريطة الطريق التى حددها الجيش.. فإذا جاء الجيش الآن وقام بتعديل خريطة طريقه فجعل الدستور أولاً ثم الانتخابات.. أليس معنى ذلك أن الجيش لم يحترم رأى الأغلبية؟!.. أليس معنى ذلك أن الجيش فقد المصداقية؟!.. فمن يريد أن يفعل ذلك بالجيش الذى انحاز للشعب وللثورة؟!.. ثم إن الجيش يسعى لتسليم السلطة لرئيس منتخب فى أسرع وقت ممكن.. وإذا بدأنا بالدستور فمعنى ذلك أن يستمر وضع الجيش كما هو حالياً لمدة عامين على الأقل إن لم يكن ثلاثة.. وليس سراً أن استمرار هذا الوضع لفترة طويلة يفتح الباب لأزمات كثيرة بين التيارات السياسية المختلفة والجيش.. وفى نفس الوقت فإن الجيش له مهام أخرى يكون من الصعب الوفاء بها وهو يتحمل ما يتحمله من أعباء وهو بعيداً عن ثكناته!.. ثم لماذا نصر على إجهاض الديمقراطية.. قبل ولادتها؟!.. *** ليس هناك خلاف على أن الاستفتاء الأخير الذى تم فى شهر مارس الماضى على التعديلات الدستورية يمثل الاستفتاء الوحيد الذى عبّر من خلاله الشعب عن رأيه وإرادته على مدى الخمسين عاماً الماضية.. فهل من المنطقى والمعقول إجهاض هذه التجربة؟.. هل من المصلحة أن تفرض قلة لها صوت عال رأيها على أغلبية صامتة؟!.. لا أتحدث عن دوافع القلة ودوافع الأغلبية.. قد تكون دوافع القلة معقولة.. لكننا نتحدث عن الديمقراطية التى تحترم رأى الأغلبية مهما كانت الدوافع.. ثم إننا نواجه فوضى عارمة.. لا أتحدث فقط عن الوضع الأمنى وإنما أتحدث عن وضع الشارع والانفلات الذى أصبح سمة عامة لكل المصريين.. كل ذلك لن ينتهى إلا باستقرار الأوضاع ووجود رئيس منتخب وسلطة تشريعية تقوم بدورها سواء فى التشريع أو فى رقابة الحكومة.. فهل من المصلحة العامة استمرار حالة عدم الاستقرار لسنوات طويلة بحجة إعداد الدستور أولاً؟!.. *** أكبر خطايا النظام السابق هو تزييف إرادة الشعب.. وأكبر مكاسب الثورة هو استعادة إرادة الشعب.. ولن يكون فى مصلحة مصر أن نستبدل المكاسب بخطايا جديدة (!!!)..