هناك اختلاف جوهرى فى الرؤية المصرية السودانية لقضية مياه النيل ورؤية أغلبية أعضاء النهر.. خاصة أثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا.. فمصر والسودان تؤكدان أن لهما حقوقا تاريخية وقانونية وحاجات حيوية فى مياه النهر، وربما تزداد هذه الرؤية أهمية لدى مصر التى لا تتوافر لديها بدائل مائية كثيرة، أما الجانب الأفريقى فينظر إلى القضية على أنها حقوق عادلة تتساوى فيها كل الأطراف.. وأن الاتفاقات القديمة نشأت فى عهود استعمارية يجب ألا تسود الآن بعد التغييرات الهائلة التى شهدتها القارة السمراء. ومن هنا تحركت الدول الأفريقية – بقيادة أثيوبيا – لإعداد اتفاقية إطارية جديدة شملت 13 باباً و43 بنداً.. تم الاتفاق بين كافة دول النهر على 40 بنداً منها، وظلت الخلافات تدور حول ثلاثة محاور.. وقبل أن نعرض لنقاط الخلاف.. نقدم رؤية سريعة للاتفاقية الإطارية التى تؤكد مقدمتها على «إدراك دول المبادرة للأهمية الاقتصادية والاجتماعية لنهر النيل لشعوب دول الحوض مع رغبتهم القوية فى التعاون للاستفادة من الموارد العظيمة للنهر». تشير الاتفاقية أيضاً إلى أنها حاكمة لعلاقاتها وأن مبادرة حوض النيل هى أساس التكامل والتنمية المستدامة والمتسقة وأساس للحوار حول موارد النهر حماية لحقوق «أجيال المستقبل».. ومؤكدين رغبتهم فى تأسيس «منظمة» تدير موارد نهر النيل وتحقق تنمية متوازنة. شمل الباب الأول للاتفاقية تحديد إطارها فى تحقيق التنمية والحماية والحوار حول إدارة موارد النهر، أما الباب الثانى فيقدم تعريفاً لحوض النيل وإطار الاتفاقية ودولها ومفوضيتها وكذلك مفهوم الأمن المائى.. حيث تقصد به الاتفاقية: «حق دول المبادرة فى الاستخدام الآمن للمياه فى مجالات الصحة والزراعة والثروة الحيوانية والحماية والبيئة» وهذا بند حيوى لأنه يعنى إعطاء كل الدول – دون استثناء – الحق فى استخدام موارد النهر، وهذا يعنى أنه لا يحق لأية دولة مثل أثيوبيا أن تستأثر بالمياه أو تتحكم فيها أو تمنع تدفقها.. بما يخل بحقوق الآخرين.. خاصة فى دول المصب.. وتحديداً مصر، هذا هو مفهوم الاتفاقية التى وقّعتها أثيوبيا. الباب الثالث للاتفاقية يشمل المبادئ العامة لحماية واستخدام نهر النيل على أسس: التعاون – التنمية المستدامة – التابعية.. أى تنفيذ كل مشاريع تنمية وحماية موارد النهر بأقصى سرعة وأينما وجدت – والبند الرابع يدعو لاستخدام النهر وفقاً «للإنصاف والمعقولية». وهنا نتوقف ونتساءل: ما هى حدود الإنصاف وما هى معايير المعقولية؟ إنها مفاهيم مطاطة مثيرة للجدل ومتغيرة حسب الظروف والأهواء والأجواء والعلاقات!! فما تراه مصر منصفاً ومعقولاً.. قد تراه أثيوبيا عكس ذلك.. وهكذا تستمر الدائرة الجدلية المفرغة! لذا يجب أن تكون هناك حصص محددة وملزمة.. مع الأخذ فى الاعتبار الزيادات السكانية المتوقعة لكافة دول النهر.. وليس لمصر فقط، فمصر الحضارة والعراقة والأصالة لا تقبل أن تحصل من النهر على مالا تستحق، وهى تنتظر من الآخرين أن يفعلوا ذلك.. من خلال ضوابط قانونية وفنية وواقعية محددة.. تخرج من إطار الاجتهادات والتعريفات الهلامية إلى أرض الواقع الذى نعيشه. المحور الرابع فى الباب الثالث ينص على الحد من الإضرار «الحاد» ببقية الدول، وهذه نقطة حيوية يجب أن تنطبق على كافة أعضائها، فأثيوبيا تقوم ببناء سدود عملاقة لحجز المياه وليست لتوليد الكهرباء كما تدعى.. هذه السدود سوف تؤثر عاجلاً وليس آجلاً على دول المصب.. خاصة مصر.. وسوف تتسبب لها بأضرار «حادة» وفقاً لنص الاتفاقية، إذاً فإن أثيوبيا تتسبب فى ضرر حاد بدولة المصب.. بمعنى آخر.. فإن أثيوبيا لا تلتزم بنص الاتفاقية التى وقّعت عليها هى. البند التالى يتحدث عن حق دول المبادرة فى استخدام المياه داخل حدودها، وربما المقصود هو عدم بيع المياه أو تصديرها لدولة أخرى خارج دول الحوض.. وربما إسرائيل، ولكن نتساءل: كيف تقوم أثيوبيا بزراعة ملايين الأفدنة لصالح دول أخرى خارج حوض النيل؟ أليس ذلك نقلاً لمياه النيل خارج دولة.. بصورة يتم التحايل عليها؟! ألا يؤثر هذا سلباً على حصص دول المصب من المياه؟ وعندما طرحت أثيوبيا فكرة «بنك المياه» فإنها تتناقض مع نص الاتفاقية الإطارية التى وقّعتها، فلا يجوز بيع المياه لدول الحوض.. لأنها حق طبيعى وحيوى.. ناهيك عن كون الماء هبة والهبة مكفولة للجميع (وجعلنا من الماء كل شىء حى)، بل إن تعطيش دول وشعوب أخرى بحجب المياه عنها يعتبر جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية يجب أن تضاف إلى الجرائم الكبرى التى يعاقب عليها القانون الدولى. وأثيوبيا الحافلة بالمياه التى تفيض عن حاجتها بكميات هائلة عانت من القحط والجفاف.. ولا يجوز لها أن تستغل المياه كسلاح تحارب به الشعوب الأخرى (فمن قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). الأساس السابع من الباب الثالث يقول (إن دول المبادرة تتخذ الخطوات المهمة «منفردة» وبشكل جماعى عندما يكون ذلك ضرورياً لحماية مياه النهر ومتعلقاتها)، شىء غريب أن تنص الاتفاقية على اتخاذ الخطوات المهمة بصورة «منفردة»! ألا يعتبر الانفراد قمة الدكتاتورية التى عانت منها شعوبنا بما فيها أثيوبيا أيضاً فى الماضى؟! وكيف يتم اتخاذ الخطوات المهمة بصور فردية.. أليس العكس هو الصحيح؟ يجب أن تحظى هذه الخطوات المهمة بأقصى توافق واتفاق – وربما الإجماع – داخل دول النيل، هذا من مصلحة المبادرة ولضمان تقليل الاختلافات والمخاطر مستقبلاً، وماذا عن انفراد أثيوبيا باتخاذ قرارات «منفردة» بإقامة سدود عملاقة تحجب مياه النيل؟ هل قامت أثيوبيا بتفصيل الاتفاقية على مقاسها ومزاجها.. وبما يتوافق مع مخططاتها ومصالحها وحدها؟! تنص الاتفاقية أيضاً على ضرورة تبادل المعلومات المرتبطة بالخطوات التخطيطية عبر مفوضية حوض النيل، ومرة أخرى فإن أثيوبيا لم تلتزم بهذا البند فى الاتفاقية الجديدة التى وقّعتها هى.. بل إنها ترفض توفير المعلومات التى طلبتها مصر حول سدودها الجديدة ومدى تأثيرها على تدفق المياه وعلى حق مصر من النيل، شىء غريب، فالأمر لا يتعلق بنصوص الاتفاقيات بقدر ارتباطه بالنوايا والمخططات الخفية الهادفة إلى إضعاف مصر ودورها الإقليمى والدولى.. لصالح دول وقوى أخرى. ??? رغم أننا لم نعرض لكافة بنود الاتفاقية الإطارية الجديدة لنهر النيل فإننا تحدثنا عن ثلاثة محاور أساسية للخلاف هى: ? الإخطار المسبق بأى مشاريع تقام على النيل، فاتفاقية عام 1959 تنص على ضرورة إخطار دول المنبع لدول المصب بأى مشاريع أو خطط مستقبلية تتعلق بالنهر.. أما الاتفاقية الجديدة فلم تحدد هذا الإخطار بشكل واضح.. بل إنها حددت ستة أشهر لدول المصب للرد على الإخطار بمشاريع دول المنبع، وإذا لم ترد دول المصب خلال ستة أشهر تعتبر موافقة عليها تلقائياً!! ? التصويت بالأغلبية فى الاتفاقية الجديدة، وهذا يمنح الدول الست الموقعة.. وربما تزيد.. القدرة على حسم عملية التصويت لصالحها وتمرير كل المشاريع.. حتى لو أضرت بدول المصب.. وتحديداً مصر، بينما تشير الاتفاقيات القديمة إلى ضرورة الموافقة بالإجماع على المشاريع والخطط المستقبلية الحيوية لنهر النيل. ? إدراج حقوق مصر والسودان التاريخية والقانونية فى الاتفاقية الجديدة من محاور الخلاف الأساسية بين مصر والسودان من ناحية وبين الدول الست التى رفضت إدراج الاتفاقيات السابقة ضمن الاتفاقية الإطارية الجديدة.. ووافقت على ضمها إلى ملاحقها، والملاحق قابلة للتغيير ولا تحظى بقوة الاتفاقية ذاتها. ويبدو أن التطورات الأخيرة يمكن أن تنعكس إيجاباً لصالح مصر، فقد أعلن وزير خارجية تنزانيا عزم بلاده إطلاق مبادرة جديدة تدعو لإعادة النظر فى الاتفاقية الإطارية خاصة حول البنود الخلافية السابق الإشارة إليها، وفى ذات الوقت قدمت حكومة بوروندى اعتذاراً لمصر عبر القنوات الدبلوماسية لتوقيعها على الاتفاقية، وقد تم هذا التوقيع آخر فبراير الماضى.. أى فى ذروة انشغالنا بثورة 25 يناير، كما أبلغت بوروندى مصر بأنها وقّعت على الاتفاقية نتيجة الضغوط الأثيوبية الأوغندية عليها. وبغض النظر عن خفايا وخلفيات الاتفاقية ودهاليزها والضغوط والمساومات التى جرت لتوقيع الأغلبية عليها.. فإن بُعد مصر عن أفريقيا كان سبباً رئيسياً فى هذا التطور الخطير والمرير، لذا فإن عودتنا إلى القارة السمراء وعودتها إلينا هو المدخل الصحيح لإعادة الأمور إلى نصابها، وهنا يجب التركيز على هاتين الدولتين الشقيقتين والصديقتين: تنزانيا وبوروندى، وأفريقيا – والعالم بأسره – لا يعترف إلا بلغة المصالح.. لذا يجب أن نتحرك فى إطار استراتيجية متكاملة للتعاون مع دول حوض النيل.. بما فيها تلك الدول المعارضة أو الممانعة أو التى تظن أنها تتآمر ضدنا. أما الأشقاء العرب فيجب عليهم مساندة مصر والسودان فى هذه القضية الحيوية.. ولا يجب على بعضهم استغلال الأبواب الخلفية مع دول النيل من أجل الضغط على مصر والحصول على مكاسب فى قضايا أخرى، وإذا كانت بعض الدول العربية تزرع فى أثيوبيا فهى تستطيع استيراد الغذاء من مصادر أخرى حتى لا تضغط مائياً وسياسياً على مصر، هذا هو الاختبار الحقيقى للعرب.. المفروض أنهم أشقاء. أما التدخل الخارجى للأعداء والأصدقاء الألداء فهو معروف ومفهوم.. ويجب أن ندرك أبعاده وخلفياته وأساليبه وأن نستعد لمواجهته بذكاء وحسم، فإسرائيل التى تضغط علينا بالنيل يمكن أن نضغط عليها بوسائل كثيرة.. أهمها الغاز.. فهم لا يعترفون إلا بلغة القوة.. بمفهومها الشامل.. وليس القوة العسكرية فقط.. فنحن فى عالم لا يحترم سوى الأقوياء.