بحميمية بالغة من ذلك النوع الذى يتبدى على دم الوجه وحشة، راح يحتضننى والزحام من حولنا يدفع الناس بعشوائية، فيتدافعون فى كتل متحركة تبدو بلا إرادة. يسأل عن صحتى وأحوالى و... شىء يلوح لى كالطيف، يتردد داخلى صوت، هذا الرجل أعرفه، لم أستطع تذكر اسمه أو ملامحه. وبقدر ما يكاد الطيف أن يتحقق، يهرب منى، كان دفؤه يتدفق ولم ينطفئ، وكنت أحاول العثور على ملامحه فى ذاكرتى، لم يهرم فقد كان شابًا، وكنت. حاولت بافتعال - كنت أموت خجلا أن يلمحه - أن أتجاوب معه بنفس الحميمية، حتى لا أبدو سخيفًا لشخص يتدفق بكل تلك المشاعر تجاهى، أصر على اصطحابى إلى أقرب مقهى. حاولت أن أعتذر بادعاء أن لدى موعدًا، لكنه شدنى بقوة وطلب شايًا، راح يتحدث عن أيام الجامعة وشقة الفجالة التى سكناها معًا والمظاهرات واتحاد الطلبة والرحلات. شىء من طيف بدأ يتجمع من بخار كلماته، وملامح ذكريات تتجلى باهتة. حاولت قدر ما أستطيع أن أصعد الدم إلى وجهى كى يتوازن المشهد، لكن دقات قلبى البطيئة أنبأتنى عن باهت وجهى، تبادلنا التليفونات والعناوين دون أسماء - باعتبار أن.. - بعد أن أصر على الغداء واعتذرت بدعوى الموعد. فى الطريق كانت الأكتاف تتخابط كتفى، ولم أدرك من يخبط من وأنا أحاول تذكر الاسم فلا أرتجع إلا سرابًا. توقفت فزعًا على صوت فرامل عربة على بعد خطوة منى، بينما السائق يسب ويرغى. ذبت فى الزحام والأصوات تتداعى. ركبت تاكسيًا وذكرت له العنوان. ظل يسير بعربته فيما كنت غارقًا فى محاولة العثور فى ذاكرتى على اسم صديقى أو تفاصيل حياتنا المشتركة فى شقة الفجالة والجامعة. كان ضجيج الشارع وصوت السائق الذى توهم أننى أسمعه، يأتى إلىّ واهنًا كاحتمال بعيد. توقف السائق فجأة ولكزنى فى كتفى، انتبهت على منظر صحراء مترامية، يبدو العمران على بعد منها كعلب كبريت تراكمت، قال: أين كنت تريد أن تذهب. لم يقتصر الأمر على نسيان الماضى، وفيما كنت أتحدث مع أى شخص، أتوقف فجأة لأسأله: كنا نقول إيه؟ أو أبحث عن مفتاح البيت لمدة طويلة، ثم أكتشف فجأة أنه فى يدى أو أمام عينى مباشرة، كنت أتصور أنها حالة خاصة بى نظرًا لمشاغلى الكثيرة فى تدبير أمور الحياة. لكننى أكتشفت أن الأمر يكاد يكون سمة عامة لدى أغلب - ولا أريد التعميم فأقول كل - الناس. اصبح من الشائع أن يجدوا كل يوم أطفالا فى سن الإدراك ضائعين، دون أن يعرفوا من أين أتوا أو إلى أين يذهبون؟ ويوما كنت وزوجتى فى خطة انسجام نادرة، فانتفضت فزعًا. كان جارى يقف أمامى مرتبكًا فى ذهول يلفه الخرس. تجمدت لوهلة بجمود الرجل الواقف خجلاً. تهته باعتذار باهت. وفيما بين الضحك والأسى قال: لا أعرف كيف نسيت باب شقتى؟ وأعطانى المفتاح الذى نسيته فى ثقب بابى. صار من المعتاد أن يختلط الأمر على الكثير من الناس، أن يذهبوا إلى غير أعمالهم، ويمارسون مهام وظائفهم فى غير أماكن عملهم، أو يذهبون لقضاء حاجاتهم فى مصالح حكومية أو غير حكومية مختلفة عن تلك التى يجب أن يقصدوها، لكن المشكلة تفاقمت حين اختلط الأمر فى أرشيفات الحكومة، فأصبح الصادر واردًا والعكس. تشتتت الملفات وتبعثرت فى أنحاء البلاد فكان على من يريد العثور على ملفه أن يلف الجمهورية كعب داير حتى يعثر عليه. وهنا أدرك الناس معنى كلمة ملف، وأدركوا عبقرية اللغة العربية التى طالما امتهنوها. لم ينج الوزراء من الأمر، رغم أنهم لايعانون من الضغوط التى يعانى منها العامة، وأصبح من الطبيعى أن يدير وزير الإسكان وزارة الرى، ويدير وزير الداخلية وزارة الخارجية، وفى اليوم التالى يدير وزير الإعلام وزارة الداخلية والعكس كل يوم يتبادل الوزراء إدارة غير وزاراتهم، أما القابع فى الكرسى الأوحد والأعلى، فقد رأى فى الأمر نوعًا من التجديد وكسر الرتابة والملل، وكان يحتفظ بذاكرته فى خزانة حديدية. تقبل الناس ذاكرتهم الراحلة، كما يتقبلون ارتفاع الأسعار المزمن ومصادرة الحريات وكذب الصحف والنهب العام شىء أصبح عميقا داخلهم كان يجعلهم يريدون برغبة حقيقية أن ينسوا. أشاعوا أن فيروسا قد غزا البلاد وتكهن البعض أن التلوث الذى وصل إلى معدلات قياسية فى الطعام والهواء والماء هو المسئول، ثم تحول الأمر إلى سيل من النكات نافست النكات على الصعايدة فى غزارتها، تحدث المحللون عن شىء يجعل الناس يخجلون من تذكر حياتهم، فحاضرهم يضغط عليهم أن يتناسوا، وقال سياسيون إن الماضى قد بيع فليس من حاجة للحاضر. كان الناس يغلقون على لحظتهم بلا أمل، وأصبح الحاضر بلا ماض بما يجعل المستقبل سرابا. اختلطت الدنيا بالآخرة. وكما هى العادة كما اشتدت أزمة يردد الناس أنها آخر الأيام، وفى الصحف والإذاعة والتليفزيون ودور العبادة وفى الطرق العامة والبيوت لم يعد من حديث إلا عن الآخرة، وبما أن الآخرة حلت محل الدنيا فلا داعى للحياة أصلا. مع هذا كان لدى إصرار على تذكر اسم صديقى، وبينما كنت عائدًا إلى منزلى، رأيت ابنى يلعب مع زملائه بكرة زجاجية، وللوهلة الأولى خفت أن تحطم قدمه، لكنهم كانوا يركلونها عاليا فى الهواء ويضحكون، ناديته. نظر إلىّ باستغراب، دعوته أن يحمل أحد الأكياس المليئة بالطلبات المنزلية، ويعود معى إلى البيت، أشاح بوجهه فى ذهول طفولى وسألنى: هل رأيت أبى؟ يوسف فاخورى يونيو 2010