المفارقة واضحة.. فنحن أمام هدف واحد متفقون جميعا على الوصول إليه.. لكننا فى نفس الوقت مختلفون فى الوسيلة التى نستخدمها لبلوغ هذا الهدف!. الهدف الواحد الذى نريد الوصول إليه ويتمتع بتوافقنا جميعا هو دولة حديثة ديمقراطية قوية يتمتع فيها كل مواطن بكامل حريته، ويحكمها رئيس منتخب ومؤسسات محترمة تعبر عن الشعب وتعمل لخدمة الشعب. الخلاف حول الوسيلة.. تماما كما لو أننا نريد الوصول إلى مكان يحتاج الوصول إليه لسيارة.. والمشكلة أن السيارة قديمة ومتهالكة تسير بالكاد.. لكنننا قادرين على استخدامها لتصل إلى المكان المحدد.. فهل نستخدمها أم ننتظر وقتا أطول لحين تجديدها بالكامل؟ هذه هى طبيعة الخلاف التى ظهرت خلال عملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وهذه هى طبيعة الخلاف التى ستظهر فى نظرتنا للإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة. والذى يستهدف وضع صيغة مؤقتة للحكم لحين وضع دستور جديد فى أعقاب إجراء انتخابات مجلسى الشعب والشورى والانتخابات الرئاسية.؟ أضف لهذا كله أن الفترة السابقة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن القائمين على أمر البلاد الآن يريدون أن يعودوا لثكناتهم ويسلموا السلطة لرئيس منتخب فى الوقت الذى التزموا بتحديده.. وأنهم لم يستجيبوا لدعاوى كثيرين تطالبهم بالاستمرار. وأمام هذه النوايا الحسنة لا يكون للخلاف معنى! و إذا بدأت بالتعديلات الدستورية التى قلت إن الخلاف حولها كان خلافاً حول الوسيلة وليس الهدف.. فإن نتائج هذا الاستفتاء تؤكد هذه الحقيقة. الذين قالوا نعم بلغت نسبتهم حوالى 78% من الناخبين والذين قالوا لا لم تزد نسبتهم على 22%. وقد حاول البعض تفسير هذا الفارق الكبير بتفسيرات غريبة وعجيبة. البعض فسر هذا الفارق تفسيرا دينيا فقال إن المسلمين قالوا نعم والأقباط قالوا لا.. وهذا كلام بعيد كل البعد عن الحقيقة.. صحيح أن الإخوان المسلمين أعلنوا أنهم سيصوتون بنعم.. وصحيح أن الأقباط.. كرد فعل لدعوة الإخوان أعلنوا أنهم سيصوتون بلا.. وصحيح أن التيارات الدينية الإسلامية حاولت كما فعل الشيخ يعقوب صاحب تعبير «غزوة الصناديق».. حاولت تصوير نتيجة الاستفتاء على أنه انتصار للمسلمين وهزيمة للأقباط.. لكن كل ذلك يدخل فى إطار المغالطة وركوب الموجة.! البعض الآخر فسر هذا الفارق على أنه فارق بين المؤيدين للثورة والرافضين لها أو الثورة والثورة المضادة.. الذين قالوا نعم يرفضون الثورة أو على الأقل يرفضون الفوضى التى أعقبت الثورة أما الذين قالوا لا فهم أصحاب الثورة.. وذلك أيضا يدخل فى إطار المغالطة وركوب الموجة.! التفسير الوحيد الصحيح الذى يمكن استقراؤه من متابعة الذين حضروا الاستفتاء وشاركوا فيه أن نتيجة الاستفتاء تعكس خلافاً بين وجهتى نظر.. وجهة نظر ترى أنه ليس هناك مانع من استخدام السيارة القديمة المتهالكة لنصل بها إلى المكان المحدد الذى نريد الوصول إليه مادام ذلك سيختصر الوقت.. ووجهه نظر أخرى تقول إن علينا أن نجدد السيارة بالكامل ونستخدمها بعد ذلك للوصول إلى نفس المكان المحدد.. حتى لو طال الوقت! الذين قالوا نعم والذين قالوا لا.. ليس هناك خلاف بينهم حول التعديلات الدستورية نفسها. الفريقان يوافقان عليها ويعرفان أنها فتحت الباب على مصراعيه للترشح لرئاسة الجمهورية وأنها استبعدت كل المواد التى «فصلت» لمرشح واحد.. لا خلاف على ذلك.. الخلاف الوحيد الحقيقى أن هناك آراء ترى أن التعديلات الدستورية ليست أكثر من عملية تجميل محدودة لوجه قبيح هو الدستور القديم.. وأنه ينبغى أن نبدأ بتغيير الدستور كله حتى ولو طال الوقت.. لأن عودة الدستور القديم تمثل خطرا على مكاسب الثورة.. فى الوقت نفسه كانت هناك آراء أخرى ترى أيضا أن التعديلات الدستورية حتى ولو كانت عملية تجميل محدودة للوجه القبيح فإنها ستعبر بنا بسرعة الفترة الانتقالية ويمكن بعدها عمل دستور جديد.. وأظن أن هذا المنطق هو الذى يحكم أيضا الخلاف حول الإعلان الدستورى الذى أعلنه الجيش مؤخرا. *** بعد ساعات قليلة من قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإصدار الإعلان الدستورى بدأ الخلاف يدب بين المؤيدين والمعارضين. المعارضون يقولون إذا كان الإعلان الدستورى يضم 63 مادة.. فلماذا كان الاستفتاء على تسع مواد فقط.. لماذا كان الاستفتاء أصلا؟ البعض الآخر يقول إن الإعلان الدستورى تنقصه تفاصيل فى منتهى الأهمية.. وعلى سبيل المثال فقد أشار البعض إلى أن الإعلان الدستورى تكلم عن الدور الرقابى لمجلس الشعب لكنه لم يتطرق إلى الآلية التى تتيح له ذلك. أما المؤيدون فيقولون إن الإعلان الدستورى الذى يضم 63 مادة أو بدقة أكثر 62 مادة حيث إن المادة الأخيرة تتعلق بنشر مواد الإعلان الدستورى فى الجريدة الرسمية والعمل بها فى اليوم التالى للنشر.. يقولون إنه مناسب لكى نعبر به الفترة الانتقالية. مرة أخرى الخلاف حول استخدام السيارة القديمة المتهالكة واختصار الوقت.. أو انتظار تجديد السيارة حتى لو طال الوقت.. تؤكد ذلك أى قراءة منصفة للإعلان الدستورى الجديد. *** يشير الإعلان الدستورى إلى هوية مصر فيقول إنها دولة ديمقراطية وإنها جزء من الأمة العربية دينها هو الإسلام وإن مصدرها الرئيسى للتشريع هو مبادئ الشريعة الإسلامية. ويؤكد الإعلان الدستورى أن السيادة للشعب وحده وأنه مصدر السلطات.. كما يتحدث عن حرية تكوين الجمعيات والنقابات والاتحادات بشرط ألا يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع أو قائما على أساس دينى أو له طابع عسكرى. الإعلان الدستورى يؤكد أيضا أن اقتصاد مصر قائم على تنمية النشاط الاقتصادى والعدالة الاجتماعية وكفالة الأشكال المختلفة للملكية مع الحفاظ على حقوق العمال.. وأن للملكية العامة حرمة والملكية الخاصة مصونة. ويشير الإعلان الدستورى إلى أن المواطنين سواء لدى القانون وأن الحرية الشخصية مصونة لا تمس.. كما يتحدث عن الضوابط التى لابد من اتخاذها عند القبض على أى مواطن.. كما يؤكد الإعلان الدستورى على حرمة الحياة الخاصة والمساكن الخاصة. الإعلان الدستورى يتحدث أيضا عن حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية كما يتحدث عن حرية الصحافة والإعلام وحرية المواطن فى التنقل والإقامة وحرية التجمعات الخاصة والعامة. ويؤكد الإعلان الدستورى بعد ذلك أن إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاءها لا يكون إلا بقانون.. ثم يتطرق لعدد من المبادئ القانونية المهمة منها أن العقوبة شخصية وأن المتهم برىء حتى تثبت إدانته وأن حق التفاضى مكفول للجميع وكذلك حق الدفاع وكذلك حق كل من يقبض عليه أو يعتقل فى الاتصال بمن يرى إبلاغه أو الاستعانة به. ويؤكد الإعلان الدستورى على أن الأحكام تصدر وتنفذ باسم الشعب. ويشير الإعلان الدستورى إلى ضرورة ألا يقل عدد أعضاء مجلس الشعب عن 350 عضوا يكون نصفهم من الفلاحين والعمال كما يشير إلى دور المجلس فى التشريع والرقابة ومدة المجلس هى خمس سنوات. الإعلان الدستورى تحدث أيضا عن مجلس الشورى ودوره فى دراسة مشروعات الخطة العامة والموضوعات التى يحيلها له رئيس الجمهورية.. وعن تنظيم حق الترشيح للمجلسين وشروط الترشيح وكوتة المرأة.. كما أكد أن محكمة النقض هى المختصة بالفصل فى صحة عضوية أعضاء المجلسين. وبذلك لم يعد المجلس سيد قراره! الإعلان الدستورى تحدث عن توقيت الانتخابات والقسم الذى يجب على كل عضو أداؤه.. كما أشار بوضوح إلى مسألة عدم جواز قيام عضو المجلس خلال فترة عضويته بشراء أو استئجار شىء من أموال الدولة أو تأجير أو بيع شىء من أمواله للدولة. كما أشار الإعلان الدستورى إلى شروط وضوابط إسقاط عضوية أعضاء مجلسى الشعب والشورى وحصانتهم.. وتحدث الإعلان الدستورى عن القضاء فقال إن السلطة القضائية مستقلة والقضاة مستقلون. كما تحدث عن اختصاص كل هيئة قضائية بما فيها القضاء العسكرى وعن علنية جلسات أى محاكمة إلا إذا طلبت المحكمة - لأسباب - العكس.. الإعلان الدستورى أيضاً تناول دور القوات المسلحة ودور الشرطة.. كما حدد سلطات المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية.. واختصاص مجلس الوزراء خلال نفس الفترة.. وأشار الإعلان الدستورى إلى ضرورة امتناع الوزراء عن مزاولة الأعمال الحرة خلال توليهم منصبهم.. كما تحدث عن حق رئيس الجمهورية فى إعلان حالة الطوارئ طبقا للضوابط.. كل ذلك بالطبع بالإضافة إلى المواد التى شملتها التعديلات الدستورية والتى تتحدث عن انتخابات رئيس الجمهورية وشروط ترشحه ومدة توليه المسئولية وتعيين نائب له.. هل هناك خلاف على كل هذه المبادئ؟.. هل يمكن أن يخلو منها أى دستور جديد؟.. أظن أن هناك توافقاً عاماً على ذلك.. لكن الخلاف حول الوسيلة وليس الهدف!.. *** هناك مخاوف مشروعة على الثورة ومكتسباتها.. لكن يجب ألا ننسى أن الثورة غيرت بالفعل مسار مصر.. وأن الزمن لا يمكن أن يعود للوراء.. فلماذا نخاف ولماذا نسمح للخوف أن يقودنا إلى الاختلاف؟!..