ما زالت الأغلبية منا تخلط ما بين طبيعة وسلطات وعمل الحكومة والنظام والدولة، والخلط ناتج عن ميراث طويل من الممارسة العملية كان الشعب يرى فيها تداخل الكيانات الثلاثة حين تجمعت السلطات كلها تقريبا فى يد رئيس الجمهورية رأس النظام بحكم سلطاته الواسعة الممنوحة له بحكم القانون والدستور مضاف سلطات مرؤوسيه التالين فى الحكومة وهيئات الدولة المختلفة الذين اختاروا أن يتنازلوا عما تبقى لهم لسيادته باعتبار أنه يملك قرار تعيينهم فى مراكزهم وبالتالى إقالتهم أو رفتهم منها، هذه المنظومة التى ورثتها مصر منذ صعود العسكر للحكم بعد ثورة 1952 ورسختها ممارسات الإدارة منذ هذا التاريخ وإلى أن يشاء الله وتشاء الدولة المصرية أن تتخلص من هذه الممارسات بوضع حدود دستورية وقانونية ورقابية فاصلة ونشطة فى ذات الوقت لا تسمح بأن يدين شخص بالولاء لآخر ولكن لمهام وظيفته ومن خلال سند ونظام قانونى يرتب السلطات ويضمن عدم تداخلها وأن يطبق هذا على الواقع العملى فى كل مناحى الحياة المصرية، وهذا فقط من شأنه أن يفض الاشتباك الذى وقع فى الماضى وانعكس على عمل مؤسسات الدولة وعلاقتها برأس النظام وتوجهاته ومن هذه المؤسسات الإعلام بعمومه والصحافة بوجه خاص. -1- بعد أيام أو أسابيع من قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 ارتبطت الصحافة بالنظام الحاكم فى علاقة زواج بالإكراه وتأكد هذا الارتباط بعد صدور قرار تأميم الصحف التى كان يملكها الأفراد فى الرابع والعشرين من مايو عام 1960، وسرعان ما تحول الزوج الممثل فى سلطة النظام الشمولى الذى حكم مصر فى هذه الحقبة إلى ديكتاتور يمارس الرقابة الغاشمة على الكلمة ويتحكم فى مصير الصحفيين بالحبس والاعتقال والرفت من الوظيفة، وفى عهدى السادات ومبارك اللذين أرخ فيهما النظام قبضته قليلا على الصحافة القومية وغادر الرقيب مقرات الصحف الذى كان متواجدا فيها طول الوقت، قام رؤساء التحرير بهذا الدور واكتفت السلطة ممثلة فى جهاز أمن الدولة بأن تكون لها الكلمة الفاصلة فى تعيين وترقية الصحفى وملاحقته - إذا تمرد على النظام – والتضييق عليه فى مصادر رزقه خارج صحيفته القومية. ومن السذاجة أن تتصور أن هناك قيادة فى الصحافة ممثلة فى رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارات سواء فى الصحافة القومية أو الصحافة الخاصة لم يكن لها اتصال أو علاقة بشكل أو بآخر بجهاز أمن الدولة، العلاقة مابين الضباط المسئولين عن هذا النشاط فى أمن الدولة والصحفيين بالتأكيد كانت لها حدود وقواعد عامة منظمة لكن فى التطبيق العملى كانت تخضع لطبيعة وفهم كل طرف للدور المنوط به ومهام وظيفته، وما إذا كان يتصل أو يتواصل مع الطرف الآخر عن اقتناع بأنهما يتعاونان للصالح العام والخير المشترك للمجتمع والدولة، أو يسعى أحد الطرفين أو كلاهما لاستخدام سلطة الطرف الآخر وتوظيفه لخدمة مصالحه وإيذاء الآخرين وتتم ممارسة هذا بوعى من معدومى الضمير أو يسقط فى هذا الفخ بعض السذج والأغبياء من الطرف المستخدم. والأدهى والأمر أن عدداً ليس بالقليل من ضباط أمن الدولة والصحفيين على حد سواء لم ير فيما يفعله أية شبهة أخلاقية أو دينية والدليل أن كثيراً أيضا من ضباط أمن الدولة كانوا حريصين - مثل غالبية المصريين - على أداء فروض الله مثل الصوم والصلاة والحفاظ عليها فى أوقاتها، أكثر من ذلك كان الضباط والعاملون فى أمن الدولة يستعينون بمن يثقون فيه من المعتقلين ليؤمهم فى الصلاة ثم يعيدونه لمحبسه أو لغرفة التحقيق بعد انتهاء الصلاة. وعلى الجانب الآخر فإن كثيراً من الصحفيين الذين قبلوا أو تطوعوا للوشاية بزملائهم ونقل أخبارهم لضباط مباحث أمن الدولة كانوا لا يستحون فى أن يجالسوا ما يدعون صداقتهم أو زمالتهم من رفاق الدرب فيأكلون ويشربون معهم ثم يختلون بأنفسهم لينقلوا أسراراً أؤتمنوا عليها أو أخباراً جمعوها من الرفاق اختلط فيها الصدق بالكذب، ويتعجب المرء حين يسأل: هل كان يظن أيضا هؤلاء مثل ضباط أمن الدولة أن ما يفعلونه هو من مهام عملهم أو أنه لا شبهة أخلاقية أو حرمانية دينية فيه؟! -2- الخدمات والمنافع المتبادلة هى العنوان الذى يمكن أن نطلقه على الصفقات غير المعلنة التى جمعت بين بعض الصحفيين وجهاز أمن الدولة وهذه الخدمات المقدمة من الطرفين فيها بالطبع جانب شبه رسمى متعارف عليه ينفذه مسئول الصحيفة القومية فيما يراه أو يعتقد أنه يساهم فى حفظ وسلامة الدولة والنظام أو المؤسسة التى يرأسها، ولا يستطيع المسئول الصحفى أن يرفض ذلك لأنه يدين فى جزء من تعيينه لجهاز أمن الدولة الذى وافق عليه، ولأنه ثانيا لا يستطيع أن يدخل فى خصومة مع هذا الجهاز الأمنى بالتأكيد سوف يكون هو الخاسر فيها . وفى حالة رؤساء تحرير الصحف الخاصة فقد كان ثمن قبول التعاون - فى الغالب - هو السماح للواحد منهم باعتلاء كرسى رئاسة التحرير والبقاء عليه وعدم التضييق على صحيفته، وربما تتطور هذه العلاقة بين الطرفين ويصبح فيها الصحفى رجلاً من رجال هذا الجهاز فيمدونه بملفات القضايا الساخنة التى ينشرها فى صحيفته ويبدو من خلالها أنه أحد فرسان الصحافة الذى يحقق الانفرادات والخبطات الصحفية ويطارد الفاسدين بالمستندات فى بلد لا يتيح تداول المعلومات ولا يؤمن بالشفافية، ويحصل الصحفى على المجد بينما هو فى الحقيقة لم يبذل مجهودا أكثر من الاطلاع ونشر ما يسمح له بنشره من ملفات أمن الدولة. نوع آخر من العلاقة ويتمثل فى أن يسعى أحد صغار الصحفيين بحكم طبيعته الفاسدة أو ضعف الكفاءة والانتهازية وينجح فى الوصول إلى المسئولين عن الصحافة من ضباط الجهاز أو يتم اصطياده للإدلاء بمعلومات عن زملائه وهى فى الغالب معلومات شخصية بحتة مثل الزواج والطلاق والعلاقات العاطفية فى المكان ولا تنتهى عند العقيدة أو الأيدلوجية التى يعتنقها الزميل (هذا إذا كان عارى الموهبة الصحفية يعرف معنى إيديولوجية) وفى الفترة الأخيرة كانت أغبى تهمة يمكن أن تلصق بصحفى من قبل الواشين أو الحاقدين وتعطل مسيرته من قبل أمن الدولة هى تهمة الانتماء للإخوان سواء بالممارسة أو بالفكر فقد كان الحساب يتم أحيانا على النوايا وليس السلوك فقط، وبالطبع كان ضباط مباحث أمن الدولة يعتمدون فى الوصول إلى هذه المعلومات على «المخبرين» الصحفيين الذين لم يمنعهم انتماؤهم لأشرف مهنة من أن يقبلوا هذا الدور غير الشريف، مقابل مكاسب تافهة وأعرف واحداً من هؤلاء رضى أن يصطحبه أمين شرطة من الجهاز لمقابلة رئيس تحرير صحيفة حزبية من الدرجة الثالثة ويوصى عليه ليجدوا له «سبوبة» ولعله كان يؤمن أن أمن الدولة هو الذى يرزق وليس الله، أو يحسب أنه فى مأمن من اكتشاف أمره وافتضاحه بين زملائه الذين يمنعهم الحياء ومراعاة حق الزمالة من مواجهته بحقيقة ما يفعله. -3- وفى مشوارى الصحفى الذى امتد لما يقرب من ربع قرن دخلت مرتين مقرات أمن الدولة الأولى كانت بعد تعيينى فى «أكتوبر» - التى أفخر بالانتماء لها - بعدة شهور ومن خلال استدعاء رسمى ذهب به مندوب من أمن الدولة حيث أسكن (لم يرسلوه لمقر العمل) واستلمه والدى واخبرنى بالأمر بعد عودتى للبيت فشعرت بشىء من الاستفزاز ولازمنى هذا الشعور وأنا أدخل لأول مرة مقر أمن الدولة فى شارع جابر بن حيان وأسلمهم طلب الاستدعاء المدون فيه اسم الضابط المسئول طالب المقابلة ويطلب منى الانتظار فى قاعة ملحقة وأحسب أن مدة الانتظار طالت وهى فى الحقيقة لم تزد على نصف ساعة لفت نظرى خلالها أن مواطنين من مهن وطوائف مختلفة مترددين على مقر الجهاز كنت أراهم وهم يطلبون المقابلة ومنهم ربات منازل وعمال وموظفون، وسألت نفسى هل مصر كلها متعاونة مع أمن الدولة؟! الضابط الذى استقبلنى ولا أذكر اسمه الآن كان على رتبة المقدم وكان حريصا منذ الحظة الأولى للقاء وخلاله أن يبدو لطيفا ومهذبا جدا تماما مثل حرصه على أن يؤكد لى أنه يعرف كل كبيرة وصغيرة من الأمور الشخصية المتعلقة بزملائى فى المجلة ويحدثنى فى هذا كما لو أنه يعيش ويعمل بيننا، وبعد كثير من الوقت وبفعل ما تبقى من شحنة الاستفزاز التى أحملها سألته فجأة: لماذا أرسلت لى طلب الاستدعاء ؟! فجاوبنى بعد وصلة مدح فى شخصى أنه يريد أن يستكمل بياناتى لديهم حتى لا يختلط الأمر أو يتشابه عليهم خاصة أن أعداد الصحفيين تزداد يوماً بعد يوم وبعدها بقليل قام يودعنى حتى خارج مكتبه بعد أن أعطانى كارته الشخصى وطلب منى بإلحاح أن أعاود لقاءه والاتصال به مثل أصدقائه فى مجلة أكتوبر ولم يسم لى واحدا منهم أما أنا فقد اتخذت قرارا قبل أن أغادر المقر بألا أحاول الاتصال به تحت أى ظرف . والمرة الثانية التى دخلت فيها مقرا لأمن الدولة كان فى لاظوغلى المقر الرئيسى بصحبة رئيس مجلس إدارة جريدة خاصة تم ترشيحى لرئاسة تحريرها وجلست أنا ورئيس مجلس إدارة الجريدة مع ضابط برتبة صغيرة وكان هذا الضابط أيضا لطيفا ومهذبا وطلب منى فيما يشبه المناشدة أن أراعى فى الجريدة التى سوف تصدر أمرين الأول عدم «شتم» الرئيس باعتباره رمز الدولة والثانى ألا أسمح لأحد التيارات باستخدام الجريدة « كان يلمح للإخوان» ولأن نيتى كان معقودة على أن أصنع صحافة تحترم المهنة وعقل القارئ فقد كنت حريصا قبل الضابط على ألا « أشتم» أحداً وألا أسمح باستخدام قلمى أو الجريدة فيما أنا غير مقتنع به. - 4 - اكتب هذا لعل قارئ يسأل : وماذا عن علاقة كاتب هذه السطور بأمن الدولة؟ ولا أفعل هذا فقط على سبيل إقرار الذمة المهنية ولكن فى محاولة لاستعادة وفهم طبيعة العلاقة بين الصحافة وهذا الجهاز الأمنى الذى لعب أخطر الأدوار فى حياة المجتمع المصرى خلال السنوات الأخيرة، وهذا لا يمنع أن شيئاً من الأذى طال شخصى من أمن الدولة ولكن ليس هذا معرضاً للشكاية. .. وأكتب هذا والوثائق المتخلفة عن اقتحام مقرات أمن الدولة تتطاير وتتداول على شبكة المعلومات وهناك أخبار عن أنها كانت تباع خلال الأيام السابقة على الأرصفة بسعر جنيهين مصريين للوثيقة وفيها أسماء عدد من الصحفيين والإعلاميين والساسة وغيرهم من طوائف المجتمع أصدر الناس عليهم جميعا أحكاماً بالإدانة لمجرد ورود أسمائهم فى هذه الأوراق فى حين وردت أسماء بعضهم على سبيل الإشارة إليهم فى تحليلات لمقالاتهم أو موضوعاتهم الصحفية وهذا لا يدينهم فى الحقيقة كما لا يثبت أنهم كانوا متورطين مع أمن الدولة فى أعمال مشينة، وأكرر كل الجالسين على الكراسى القيادية كانوا على اتصال بحكم مواقعهم مع هذا الجهاز بشكل أو بآخر ودون استثناء كانوا متعاونين بدرجات ومن لم يكن يفعل أو يمتنع كان مصيره الحرب الحقيقية والملاحقة والمطاردة فى أكل عيشه وسمعته وحياته الخاصة.