يجب أن نعترف أن لكل وسيلة إعلامية هدفاً وغاية وإطاراً تعمل خلاله، ومنظومة متكاملة تتحرك معها.. بغض النظر عن فساد أو إصلاح هذه المنظومة.. هذا الكلام ينطبق على الإعلام الرسمى والخاص والحزبى.. المحلى والعربى والدولى أيضاً.. وهناك أسس استراتيجية تحكم هذه الأطر.. تلتزم بها ذاتياًً.. أو يتم فرضها عليها.. قسراً.. أو إغراءً!! ومن هذا المنطلق لعبت الفضائيات – خاصة العربية – دوراً حيوياً فى ثورات المنطقة والترويج لها، بل المشاركة فى صنعها وتطويرها وتوجيه حركتها، وهذا لا يقلل أبداً من الجهد العظيم الذى قام به مفجرو هذه الثورات.. فهم الأصل والأساس الذى انطلقت منه كل هذه الحركات الهائلة.. بسرعة فائقة.. تجاوزت وسائل الإعلام وكبار الساسة والمحللين.. فى كثير من الأحيان. ولكننا نطرح سؤالاً أساسياً فى بداية هذا التحليل: لماذا فشل الإعلام الحكومة او الرسمى – خاصة التليفزيونى والفضائى – ولماذا نجح الإعلام الخارجى أو الخاص.. حتى أن الفضائيات العربية تفوقت على الشبكات العالمية الشهيرة؟! أسباب فشل الإعلام الرسمى تعود أساساً إلى العقليات التى كانت تحكمه.. هذه العقليات كانت – ومازالت بقاياها – تفكر بذات الأسلوب القديم الذى يستند على منظومة من الفساد والمحسوبيات والمجاملات، فلا رؤية ولا حرية حقيقية.. ولا استراتيجية إعلامية محددة وواضحة.. أغلبها كان يعمل لمصلحته وبأسلوب الولاة الذين يحاولون جنى أكبر قدر من المكاسب الشخصية فى أسرع وقت ممكن!! هؤلاء أداروا المؤسسات الإعلامية بمنطق «العزبة».. يفعلون ما يشاءون.. دون حسيب أو رقيب.. فظلموا أنفسهم.. قبل أن يظلموا المواطن المصرى.. بحجب الحقيقة وتزوير الواقع، بل إنهم لم يحاولوا استغلال موقعهم– داخل إطار السلطة– لتوجيه النقد البناء والمفيد للوطن. الإعلام الرسمى– خاصة الفضائى والتليفزيونى– ظل يعتمد على أهل الثقة.. يدفعهم ويرفعهم إلى مواقع القيادة ويمنحهم كل الدعم والتأييد.. بأشكاله المختلفة. وللأسف الشديد فإن هذا الأسلوب انتهى من العالم بأسره.. عدا منطقتنا العربية.. انتهى مع سقوط الشيوعية والنظم الاشتراكية.. واستمر لدينا كنوع من الذكرى السيئة والممارسة الفاسدة، وكدليل قوى على سقوط النظام فعلاً.. قبل أن يسقط رسمياً. وقد انعكس ذلك على ضعف الخبرات التى يستعين بها الإعلام الرسمى– خاصة التليفزيونى– مع تهميش الخبرات الحقيقية والمؤهلة.. ومن العجيب أن كل الصحف المعارضة والحزبية والخاصة والفضائيات العربية استعانت بخبرات مصرية نشأت فى رحاب الإعلام القومى، فنجحت هناك، وفشلت هنا فشلاً ذريعاً ومدوياً. الأخطر من ذلك أن هذا الإعلام كان جزءاً من منظومة فساد النظام بأكمله.. وهذا تطور طبيعى.. (فكل إناء بما فيه ينضح)!! فلن يظهر إعلام ناجح وراشد - ورائد كما كنا نتشدق دائماً - فى مناخ فاسد وأسس متهاوية، وإذا كانت عدوى النجاح تنتقل إلى الآخرين، وتدفع إلى مزيد من التقدم والتطور.. فإنه عدوى الفشل والفساد تنتقل بسرعة أكبر! وللأسف الشديد كان الفساد فى النظام السابق ممارسة شائعة، وعلى نطاق واسع.. كاد أن يفسد القلوب والعقول.. قبل أن يلوث الأيادى! *** أما إجابة الشق الثانى من السؤال: لماذا نجحت الفضائيات الأجنبية خاصة العربية.. وتحديداً «الجزيرة»؟، فنقول: إن هذه المؤسسات الإعلامية نشأت بمنطق الاحتراف.. وليس بألاعيب الهواة والحواة وأشباه الخبراء الذين أطاحوا بكل جميل ونبيل فى المحروسة! هذه الفضائيات قامت وفق دراسات جدوى اقتصادية وسياسية وإعلامية، أى أنها تدخل فى إطار منظومة متكاملة توظفها وتستخدمها ببراعة فائقة لتحقيق أهدافها.. حتى لو بدت أنها مع الحرية والديمقراطية والرأى الآخر. ولو حسبنا تعداد موظفى جهاز الإذاعة والتليفزيون الرسمى لاكتشفنا أنه يمكن أن يفتح عشرات القنوات الفضائية.. وليس بضع قنوات إخبارية رسمية.. فاشلة غالباً، وهذا ليس عيب هؤلاء الموظفين أو العاملين بقطاع الإذاعة والتليفزيون الرسمى، ولكنه عيب المناخ الذى عملوا فيه وتسبب فى إخراجهم من معادلة الإسهام الإيجابى فى نهضة إعلامية غابت عنهم.. قسراً.. وقهراً. السبب الثانى لنجاح الفضائيات الأجنبية والعربية – خاصة الجزيرة – هو التمويل الوفير والغزير. وبغض النظر عن مصادره ومن يوفره، فإن هذا التمويل السخى أتاح للفضائيات العربية القدرة على الانتشار السريع فى مختلف أنحاء العالم، بل والمبادرة لإيفاد مراسلين إلى بؤر التوتر والأحداث الساخنة.. وما أكثرها فى منطقتنا التى قد لا تهدأ فى المستقبل القريب.. على أقل تقدير. ليس هذا فقط.. بل إن توافر التمويل الغزير أتاح لهذه الفضائيات استقطاب أفضل الخبرات والقدرات من مختلف أنحاء العالم فأصبحت تشاهد العالم كله ممثلاً فى قناة فضائية واحدة! ويكفى أن الجزيرة نجحت فى استقطاب المشاهد العربى والأجنبى والمحلى أيضاً فى كل المناسبات السياسية والرياضية والإعلامية.. إلى آخره، وبغض النظر عن احتكار الأحداث الكبرى وتشفيرها فإن هناك واقعاً جديداً مفروضاً على المشاهد يجب أن يتعامل معه حتى يرى ويسمع ويستمتع! الإدارة الاحترافية مكنت هذه الفضائيات من التحرك بمرونة فائقة وسرعة كبيرة.. فلا تنتظر توقيع المدير أو قرار الوزير.. إلى آخر السلسلة الذهبية التى نعرف حلقاتها! ولعلنا نستذكر بعض الدروس والنماذج فى معالجة القضايا الحالية، ومنها مسألة التشويش الفضائى! وبغض النظر عن رفض هذه الممارسة الشائنة والفاشلة فى حجب الحقيقة، فإن القذافى استعان بخبراء وخبرات نجحت فى تعطيل الجزيرة وقنوات أخرى، بينما فشلنا نحن فى ذلك.. رغم كل الخبرات المزعومة التى تقول إنها لدينا، نعم فشل النظام السابق فى هذه المواجهة التكنولوجية، كما فشل فى إدارة الأزمة منذ 25 يناير.. وفشل أيضاً فى إدارة كل أزمات مصر.. فتركها مثقلة بالهموم والديون والمشاكل. وإعلام القذافى نموذج آخر للفشل الرسمى العربى.. فقد استمر يعالج أزماته وثورة الشعب الليبى بذات الأسلوب القديم (الكذب– الخداع– التضليل) بتجنيد العملاء والمحاسيب من كافة أنحاء العالم! حتى أن سيف الإسلام القذافى دعا إعلاميين كثيرين عرضوا صورة مخالفة تماما للواقع الدموى والمجازر التى ارتكبها هو ووالده.. وآل القذافى جميعهم. وإذا كانت الجزيرة قد اجتهدت فى تغطية ثورات مصر وتونس وليبيا.. فإنها تجاهلت إلى حد كبير أزمة البحرين.. ولم تمنحها القدر الكافى، رغم أنها الجارة الأقرب.. والأقربون أولى بالتغطيات الثورية!! إنها علامة استفهام كبيرة على قناة الجزيرة، ولكن الأهم.. ماذا ستفعل الجزيرة يوم 16 مارس لتغطية الانتفاضة ضد امير قطر؟! إنه اختيار صعب وحاسم، رغم علمنا بأن هذه مجرد محاولة فى إطار التغيير الكبير.. فى العالم بأسره.. وليس عالمنا العربى وحده.