أكثر من عشر سنوات مرت على بدء مشروع طموح للهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان «التدريب التحويلى فى الفنون التشكيلية» . يهدف المشروع إلى إعداد الكوادر التى تستطيع اكتشاف الموهوبين، ومن ثم رعايتهم وتحفيزهم ، وذلك بعد أن أدرك المسئولون أن دور المعلم أو المسئول عن ظهور المواهب وتألقها هو العامل الحيوى لإطلاق طاقات الأطفال والشباب وبالتالى طاقة الأمة لتأخذ مكانها بين الدول المتقدمة . بدأ المشروع بإصدار سلسة كتب التدريب التحويلى الموجهة إلى مجال الفنون التشكيلية وانعكاساتها التربوية . وتضم السلسلة أربعة عشر كتابا تتناول الجوانب النظرية من مفاهيم ومصطلحات ومذاهب فنية، ثم الجوانب العملية من خامات وأدوات وطرق الأداء المختلفة لأشكال التعبير الفنى من نحت وتصوير ورسم وما إليها من خبرات وأداءات فنية واسعة التنوع والتمايز. ومن هذه الكتب، جاء كتيب صغير الحجم ، هائل القيمة لأهمية الجانب الذى يتناوله وهو كتيب «رؤية تمهيدية حول رعاية الموهوبين» للروائى الموهوب فؤاد قنديل . ومن البداية ومنذ العبارة التى بدأ بها «قنديل» كتابه يتضح إيمانه العميق بأن هناك ما يميز كل إنسان وماعلينا إلا أن نجلو السطح فقط لتتجلى مواهبه وذلك بذكره عبارة برتراند راسل فى بداية كتابه: « فى أعماق كل إنسان يهجع فنان ، لكنه مسجون فى أغوار الذات، وعلينا أن نطلق سراحه حتى تشيع البهجة فى كل مكان» والكاتب نفسه يؤكد على أن أغلب البشر موهوبون فى مجالات مختلفة وبدرجات متفاوتة سواء من ظهرت موهبته أو لم تظهر، وأيضا يقول إنه ليس شرطا أن كل من التقيناه بلا موهبة كان محروما منها، بل ربما كان متمتعا بها ، لكن الفرصة لترى النور لم تتح لها، ولعل عوائق وموانع حالت دون ظهورها. يوضح لنا أن تاريخ البشرية الذى اشتمل على إنجازات ونجاحات، قام فى الأساس على الإبداع والابتكار، وأن الرغبة فى الإبداع أتاحت فرص الإحساس بالجمال الذى يتجلى فى الأعمال الفنية والأدبية الرفيعة التى كانت بمكان تمكنت فيه من إرساء قيم الحق والخير والجمال فى نفس الوقت الذى خلدت فيه بطولات وأمجاد لأفراد وجماعات. مع ملاحظة أن إبداع الإنسان العلمى لا ينفصل عن إبداعه الأدبى فهما يتوازيان فى رحلة الإبداع عامة . ثم ينبه إلى أهمية العناية بالموهوبين لما لهم من سبق فى عملية الإبداع على مر التاريخ فهم ثروة الأمم وسبيلها إلى اللحاق بركب التقدم ومسايرة روح العصر علميا وفنيا وحضاريا . يعرف الكاتب بكلمة «موهبة» ثم يقسمها إلى عامة وخاصة . فالموهبة «العامة» نشير بها إلى مستوى عال من الاستعداد والقدرة على التفكير المتجدد والأداء الفائق فى أى مجال من المجالات سواء كان علميا أو عمليا. وهى ذات أصل فطرى ترتبط بالذكاء والقدرة العالية على الاستجابة والتحصيل والنقد والرغبة الدائمة فى التطوير والتغيير. أما الموهبة «الخاصة» فهى مستوى عال من الأداء المتميز فى مجال معين . فهناك المتميز فى المجالات الفنية وآخر فى الميكانيكية والثالث فى اللغوية ورابع فى العلمية أو العملية وهكذا . ثم يثير الكاتب سؤالا محوريا : لماذا يبدع الموهوب؟ أى ما هى الأسباب التى تحثه على إنتاج الأعمال الإبداعية وتحرضه على ألا يقدم إلا كل مبتكر؟. وعلى السؤال السابق يذكر الكاتب الدوافع التى رصدتها دراسات علماء النفس والتربية المتمثلة فى :الرغبة المحمومة للتعبير عن الذات، التنفيس عن طاقة زائدة، الرغبة فى التواصل مع الآخرين، شغل وقت الفراغ، الرغبة فى التميز ولفت الانتباه، الاهتمام بإحداث تطور أو تغيير بما يعنى الثورة على القديم، محاولة التقليد، التسلية واللعب والترويح عن النفس . ثم يتطرق إلى مميزات الشخص الموهوب وهى :حب الاستطلاع والرغبة فى التقصى والاكتشاف، المرونة فى التفكير، الثقة بالنفس، سرعة البديهة وتعدد الأفكار، التلقائية فى العمل، الاستقلالية فى الفكر، المغامرة والجرأة، القدرة على الملاحظة وسرعة الاستجابة والإحساس بالجمال، والرغبة فى التغيير والتطوير. وعن حاجات الموهوبين يلفت الكاتب الانتباه إلى أهمية التدريب المتواصل حفاظا على رفع الكفاءة وتطويرها حرصا على عدم ذبول الموهبة. أيضا يحتاج الموهوب إلى تثقيف مستمر واضطلاع على القديم والحديث من التجارب المماثلة، وكل تجربة من الممكن أن يستفيد منها فى صقل موهبته، ومن الضرورى أيضا أن يلقى الموهوب العناية والاهتمام من الأسرة والمجتمع والمؤسسات المختلفة. وأخيرا، هذا الكتيب صدر ضمن مشروع من أهم المشروعات القومية التى تهتم بالفرد . كان مشروعا طموحا بدأ بداية منطقية باهتمامه بمن يعملون فى مجال الثقافة ، ليقوموا بعد ذلك بدورهم فى اكتشاف الكوادر التى ستقوم بدورها فى بناء الوطن . بدا المشروع ، وكان هذا الكتيب الذى يتحدث عن الموهوبين، ولكن أين ذهب المشروع ؟ من المؤكد أن من يملك الإجابة هى الهيئة العامة لقصور الثقافة التى أطلقت هذا المشروع الرائد.