من أسوأ الظواهر التى سادت هذه الأيام كثرة كتابة المذكرات الشخصية وخاصة فيما بين أهل الفن والسياسة. وقد تقرأ مذكرات لفنان مهما تعاظمت أسهم نجوميته على سبيل التسلية فقط، وقد لا تعبأ إذا صادفت حدثا فى مذكرات الفنان يتجاوز حدود المنطق أو به من الاختلاق مالا يمكنك من تصديقه لأنك تقرأ لتتسلى وتستهلك وقت فراغك.. أما أهل السياسة فإن الأمر يبدو مختلفا اختلافا كبيرا لأنه إذا كانت أحداث مذكرات الفنان هى ملك له وحده. فإن رجل السياسة معظم ما يذكره من أحداث فى مذكراته هى شأن من شئون الوطن فى حقبة تاريخية محددة هى فترة ممارسة صاحب المذكرات لدوره السياسى وغالبا ما تشى المذكرات بعظمة هذا الدور ولا مانع من إبراز ذلك بتسفيه أدوار الآخرين ولذلك أصبحت هناك ثقة مفقودة بين المذكرات السياسية وقارئها والتى يروى من خلالها الحدث الواحد بعشرات الروايات المتناقضة. ومع مطلع العام الجديد والذى بدأ أول أيامه بالأمس أوردت صحيفة الأهرام خبرا مفاده أن أسرة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر سوف تنشر مذكرات دونتها السيدة تحية كاظم قرينة الرئيس الراحل وقد عكفت على كتابتها خلال حياتها التى امتدت عشرين عاما بعد رحيل الزوج، ورغم أن هذا الخبر كان مفاجأة كبيرة وغير متوقعة لدى معظم القراء بأية صورة من الصور، وذلك لأن شخصية الراحلة الجليلة من نمط إنسانى آثر الحياة فى الظل وما بالك أن يكون هذا الظل هو ظل جمال عبد الناصر.. ذلك الرجل الذى لم يقتصر تأثيره على التاريخ فقط، بل تجاوزه إلى الجغرافيا أيضاً وليمتد هذا التأثير حاملا فلسفة ناصر الثورية لدى الشعب المصرى التواق بطبعه إلى الحرية ومع كل شعوب الأمة العربية التى اتخذت من الزعيم رائداً لها. ونفس الموقف اتخذته شعوب آسيا وأفريقيا والذى تبلور واضحاً جلياً منذ السنوات الأولى لثورة يوليو المباركة حينما كانت أول رحلة للرئيس عبد الناصر خارج حدود الوطن لحضور مؤتمر «باندونج» المدينة الأندونيسية فى إبريل 1995 ليتكون الثالوث الأشهر (ناصر - نهرو - تيتو) ويصبح ثلاثتهم نجوما لسياسة جديدة لم يعهدها العالم من قبل وهى سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابى.. وهذا الاستهلال كان ضروريا لندرك جميعا أن الرئيس عبد الناصر كان شخصية استثنائية بكل المقاييس ولا يتكرر كثيرا فى التاريخ الإنسانى. ومن هنا فقط تأتى أهمية هذه المذكرات التى تصدر عن أقرب المقربين إليه وكلنا يعلم مكانتها الوجدانية لديه كرفيقة عمر وشريكة حياة.. وأعتقد أن ما سوف تتضمنه هذه المذكرات فى جوهرها هى أحداث قام ببطولتها المطلقة الرئيس عبد الناصر ووقائع هو فاعلها المحورى ويقتصر دور السيدة تحية فى هذه الأحداث والوقائع على دور المراقب الصادق المعاون المخلص الذى لا يبتغى شيئاً من أدائه لهذا الدور سوى مصلحة الزوج الوفى وتحقيق آمال الزعيم فيما يصبوا إليه من أهداف وهنا يبرز تساؤل يفرض نفسه.. هل تتضمن هذه المذكرات تأريخاً لمسيرة ناصر النضالية أم ستكتفى بسرد ذكريات حياة زوجية هانئة ومستقرة استمرت أكثر من ربع قرن من الزمان. علما بأنه قد تخللت هذه الحياة معاناة تربية خمسة من الأبناء تحت وطأة التقشف والبعد عن الرفاهية المفرطة والمفسدة من وجهة نظره تطبيقا لفلسفة اعتنقها ناصر واستمدها من نشأته فى كنف أب صعيدى مكافح من عامة الشعب المصرى، وقد صرحت السيدة منى عبد الناصر والتى أخذت على عاتقها مهمة نشر المذكرات فى مطلع هذا العام ليكون إصدارها مواكبا لمعرض القاهرة الدولى للكتاب بأن هذه المذكرات سوف تنشر كما صاغتها والدتها السيدة تحية دون إعداد يفقدها تلقائيتها أو صياغة تبتعد بها عن الموضوعية. ومن هنا قد نستشف أن هذه المذكرات التى بدأت قرينة الرئيس الراحل كتابتها فور وفاته فى سبتمبر 1970 والتى عاشت بعده عشرين عاما وقد أسمتها «مذكراتى معه» بما يعنى أنها تشمل سردا لذكرياتها فى حياة الرئيس مع ترجمة لمشاعر الافتقاد بعد رحيله، ومن خلال الجزء الأول نتساءل: هل ستحمل المذكرات إجابات قاطعة لقارئها حول ما أثير من تساؤلات مازالت تشكل لدى الناس رغبة فى استجلائها وخاصة من مصدر هو الأقرب على الاطلاق للرئيس عبد الناصر كما هو الأبعد عن أى هوى أو غرض يفسد مصداقية المذكرات. ومن هذه الأحداث مثلا لا حصر حادثة انتحار المشير عبد الحكيم عامر فى أعقاب نكسة 1967 وكذلك الوفاة المفاجئة للرئيس عبد الناصر فى عمر مبكر نسبياً.. أما الجزء الثانى فربما يغلب عليه الطابع الإنسانى الذى يبرز شخصية ناصر كزوج وأب بعيدا عن صورة الزعيم الأسطورى التى علقت بأذهان وقلوب محبيه من جموع الشعب المصرى والعربى.. إن هذه المذكرات لا شك تمثل إضافة ثرية ومهمة بصرف النظر عن رصانة صياغتها أو أهمية محتواها وتستمد هذه الأهمية من مكانة كاتبتها فى قلوب المصريين لما عرف عنها من تجرد ووفاء وإخلاص لرجل أثقلت كاهله رغبته الأكيدة فى رفعة هذا الوطن والارتقاء بشعبه والذى على أرضه شارك الشعب لحظات الانتصار ومعاناة الانكسار ولكن حسبه أنه ظل وفيا لمبادئه ومخلصا لشعب بادله حبا بحب حتى لقى ربه راضيا مرضيا وسيظل نموذجا للوطنية فى اسمى معانيها.. رحم الله جمال عبد الناصر ورحم قرينته الوفية.