كان من الواضح على «سليم» منذ طفولته المبكرة أنه شديد الرقة، إلى الدرجة التى جعلت والده يخشى عليه من أن ينشأ «مدللا وطريا» بما لا يصح مع «معنى الرجولة» الذى يريده أن يتربى عليه. وبهذا المفهوم كان الأب يتعمد أن يتعامل معه بخشونة ملحوظة، فيصر مثلا - وهو فى سن أربع سنوات - أن يجعله ينام فى حجرته المظلمة وحده، ومهما بكى طالبا صحبة أمه. وكان بالأب من السيطرة والتحكم ما يمنع به الأم من الاستجابة لصرخات ولدها، وما يجعله أيضا لا يبالى ببكائها هى شخصيا تعاطفا مع ولدها. كان الأب بنفس المنهج يجبر الطفل على أكل الأشياء التى لا يحبها، طلبا ل «الرجولة المنشودة». وكان «سليم» يلعب يوما وهو فى السادسة، مع دميته «دبدوب» الذى كان يعتبره صديقه الصدوق، يتسلل بالليل ويضعه فى حضنه وهو ينام، فيشعر بالاطمئنان، ودخل الأب فرآه يحضنه ويقبله، فإذا به يخلع الحزام الذى كان يرتديه وينهال عليه يجلده به كالمجنون بعد أن خطف منه «الدبدوب» ورماه من نافذة الحجرة. ظل «سليم» يبكى بحرقة لساعات، وهو يقول فى عقله: «حين أكبر وأنجب ولدا لن أفعل ذلك معه أبدا». ويتذكر «سليم» أمه وهى تهدئ من روعه وتطمئنه، وتقول له إن والده يحبه، ويريده أن يكون «رجلا». البحث عن أمان زائف/U/ منذ ذلك اليوم وطوال فترة المراهقة، صار «المفتاح» الذى يكسب به «سليم» رضا أبيه، هو أن يخالف طبيعته الرقيقة تماما فى حضوره، ويعيشها سرا بينه وبين نفسه. فمثلا كان يحب الشعر الرومانسى جدا، يقرؤه ويكتبه، لكن فى حضور والده يظهر له أنه يقرأ أشعار الفروسية وملاحم الحروب القديمة. كان لا يقول لوالده أبدا أنه يعشق الرسم، والموسيقى، ويهوى التأمل فى جمال الطبيعة بالساعات، بل يؤكد له أنه يتعلم فى النادى رياضة المبارزة «الشيش»، والملاكمة.. وهكذا. كان ذلك يهدئ الأب، ويطمئنه أن ولده قد بدأ يسير على طريق «الرجولة». ودخل «سليم» كلية الهندسة بناء على رغبة والده أيضا، وما كان ليجرؤ أن يقول له إنه يتمنى أن يدرس «الأدب والشعر»! حرية خارجية.. وسلاسل غير مرئية/U/ قبل تخرج «سليم» من الجامعة بشهور توفى الأب فجأة، وحزن عليه كثيرا. ومع ذلك فقد شعر «سليم» أنه لأول مرة فى حياته ما عاد مضطرا أن يتظاهر بما ليس فى طبيعته. ترك كلية الهندسة فورا، وتقدم لكلية الآداب من جديد كطالب فى قسم الأدب الإنجليزى، وتفوق فى دراسته، وتخرج بتقدير ممتاز، وتعين معيدا بالجامعة، ومن شدة حبه للأدب والشعر، أخذ الدكتوراه من أمريكا فى سنتين، وعاد أستاذا مرموقا يحبه الطلبة جدا لشدة حبه لعمله ورقته الشديدة فى التعامل معهم. لم تمر سنتان إلا وكان «سليم» قد تزوج من فتاة جميلة أحبها، وبعد عامين آخرين صار لديه ولدان يعشقهما، ومع هذا كان يلحظ أحيانا أنه سرعان ما يتوتر من أى ضوضاء عادية يحدثها الطفلان وقد صارا فى الثالثة والرابعة من العمر، فيتحكم فى نفسه أحيانا، وتفلت منه أعصابه فى أحيان أخرى فيطلب من زوجته أن تأخذهما بعيدا عنه ليهدأ، ولكن ما حدث فى ذلك اليوم القريب أصاب «سليم» بصدمة مدوية. فقد كان من عادته أن ينام قليلا وقت العصر استعدادا لمساء طويل يمضيه فى القراءة والدراسة أو إعداد أوراق البحث التى سيلقيها فى مؤتمر أو ندوة ما. أثناء نومه سمع صوت الطفلين وهما يتعاركان ويصرخان، فاستيقظ منزعجا أشد الانزعاج لدرجة أنه لم يدرى بنفسه وهو يخطف حزامه الملقى على السرير، ويخرج من حجرة النوم، فيصل إلى الطفلين ويجلدهما بالحزام. ولم يدرِ بنفسه إلا وهو يرى الأم تدفعه بعيدا، وتحاول أن تنتزع الحزام من يده. أفاق «سليم» وكأنه فى كابوس لم ير مثله فى حياته. لم يكن الكابوس فقط هو أنه ما تصور أن يفعل هذا بطفليه، بل أيضا لأنه استعاد هذا الموقف الذى فعله به أبوه بحذافيره، فكيف يفعله هو بالضبط وهو الذى قال: «لن أفعل هذا بأبنائى أبدا»؟ أسرع «سليم» يحتضن طفليه وهو يبكى كما لم يبك فى عمره أبدا، وأخذ يعتذر لهما، ويقول وهو يقبلهما ويمسح دموعهما:«بابا غلطان ولن يفعل ذلك مرة أخرى». وبدأ يشرح لهما بكل ما يناسب قدرتهما على الاستيعاب، أن كل إنسان مهما كان طيبا أو عاقلا معرض للخطأ، ولكن المهم أن يدرك الخطأ، ويتعلم منه، ولا يكرره. ويقول «سليم» أن نظرات طفليه البريئة وهما يمسحان دموعه، ويستعيدان الثقة والاطمئنان فى حضنه، جعلته يصمم على أن يعرف «السر الغريب» فى تصرفه «البشع» هذا، والذى بدا فيه أنه «شخص آخر» يشبه «والده» تماما. وأخذ يقول فى نفسه: «وكيف أضمن ألا يظهر هذا الشخص رغما عنى مرة أخرى ويفعل ما فعله بطفلى؟ إنى لن أحتمل ذلك! كسر الدائرة المفرغة/U/ من وقتها بدأ «سليم» رحلته للاستواء بمعاونة طبيب نفسى، وبجهده الخاص فى قراءة كتب التنمية الذاتية. فاكتشف أنه حين كان يحاول أن يحمى نفسه من غضب والده وسخطه عليه وعقابه له، قد خلق داخل نفسه شخصية مزيفة موازية هى صورة طبق الأصل من والده، وصارت مع الوقت لها وجود فى عقله اللاواعى. وبينما هو يجعلها تعبر عن نفسها مع والده كانت تتعمق داخله أكثر، بينما هو فى وعيه لا يحب هذه الشخصية. بعدما توفى والده، وعاش على طبيعته، لم يكن «سليم» يدرك أن «الشخصية الوهمية» التى تواجدت قد اختبأت داخله، وكانت تتحين أى فرصة للتعبير عن نفسها. كانت هذه الشخصية الوهمية تترعرع على «الخوف» الذى تربى داخله من والده، وعلى «الرفض والنفور» الذى تكون عنده تجاهه، وعلى إحساس خفى ب «الدونية والضعف» لأنه لم يستطع أن يحمى نفسه من والده، بأسلوب أقوى وأكثر صدقا. ظلت هذه المشاعر كامنة داخل «سليم»، تعبر عن نفسها فى ازدواجية خفية فى علاقته بأطفاله. فهو بوعيه الظاهر صادق فى أنه يريد أن يربيهما بالحنان والرقة والتفاهم الذى افتقده مع والده، لكنه فى العمق لم يكن واعيا بهذه «الطاقة الخفية» الناتجة من «الشخصية المزيفة» التى تصنّعها فى وقت ما، وبقيت تحاول أن تحافظ على وجودها من خلال «التوتر» الذى كان يشعر به إزاء أبنائه، والذى وصل إلى حد هذا العمل الأحمق الذى فعله معهما، وقد اختارت هذه الطاقة المدفونة أن تنطلق فى وقت فقد فيه السيطرة على نفسه. مجرد الوعى بوجود هذه «الطاقة المدفونة» أو «الشخصية الوهمية» فى العقل الباطن، جعل «سليم» يبدأ خطوة صحيحة على طريق الشفاء الحقيقى من تداعيات التربية التى نشأ عليها. وأخذ يتيح لهذه الشخصية الوهمية أن تتلاشى بعدة أساليب تعلمها: 1- الوعى الموضوعى بما حدث له كطفل، دون شعور بالدونية أو الضعف، بل التعاطف والحب لنفسه. 2- الغفران لوالده بوعى أيضا، بمعنى أنه لا يحتاج أن يبرر قسوته فى معاملته، ولا أن ينفر منه كذلك، بل ينظر له على أنه تصرف فى حدود ما يعرف، وفى حدود قدراته النفسية مهما كانت، فتغاضى عما حدث وصار يرسل له طاقة من الصفح والحب. 3- تنمية قدرته هو على أن يرى هذه الطاقة غير السوية وهى تخرج فى صورة توتر أو رغبة فى أى نوع من أنواع العنف، فلا يسير وراءها بل يتركها تمضى كسحابة عابرة، ويعطى القيادة لنفسه الحقيقية بطبيعتها ورقتها. الخروج من الدائرة لم يكن الأمر سهلا فى البداية، ولكن مع صدق رغبة «سليم» وإصراراه على أن يحل مشكلته من جذورها، ويبدأ علاقة جديدة وسوية مع أبنائه، تقدم كثيرا. وصار متمكنا من التمييز بين رد الفعل الذى يأتى من طبقة أو طاقة فى كيانه غير سوية، وبين تفاعلاته الطبيعية القادمة من «نفسه الحقيقية» بما فيها من سلام واستواء. ومع الوقت أقام «سليم» مع طفليه علاقة رائعة فيها الحب والثقة والإرشاد أيضا بكل الاحترام. «سليم» نموذج غير شائع للشخص الذى خرج من الدائرة المفرغة من العلاقات المريضة التى تتتالى بين الآباء والأبناء فى صور متعددة. وكم من الأطفال قالوا وهم يعانون من معاملة آبائهم وأمهاتهم لهم: «لن نفعل ذلك مع أبنائنا أبدا»، ولكنهم حين صاروا آباء وأمهات فعلوا نفس الشىء، وربما الأكثر منه، ولو بصور مختلفة؟ كيف نكسر هذه الدائرة اللعينة وتكون علاقتنا بأنفسنا وأبنائنا أجمل وأسوى وأسعد؟ الأمر يحتاج لمزيد من المناقشة وهذا ما سنفعله بإذن الله فى المقالين القادمين.