عندما يعترف كبار المسئولين الإسرائيليين بأن بلادهم لم تتضرر أبداً مما نشرته ويكيليكس.. بل إنها ساعدتها ودعمت موقفها وقضاياها أكثر مما خدمت أى طرف آخر.. وعندما تركز هذه الوثائق على فضح بلاد دون أخرى.. وأشخاص محددين تستفيد إسرائيل من إحراجهم والضغط عليهم.. وعندما يتم «توجيه» الإعلام لتغطيات ومعالجات خاصة.. تصب فى مصلحة تل أبيب.. عندما يحدث كل هذا يمكن أن نستشف ونعرف من هو المستفيد ومن هو المتضرر.. ومن يقف وراء لعبة ويكيليكس بأسرها؟! بداية.. فإن أكبر تركيز لوثائق وتسريبات ويكيليكس كان على إيران ومشروعها النووى.. حتى أن كافة الوثائق المنشوره فى هذا الصدد كشفت عن تحول سياسى جوهرى فى المنطقة.. تحول من الاهتمام بالقضية المحورية (القضية الفلسطينية) إلى قضايا هامشية أخرى.. وتحديداً إلى الخطر الإيرانى وتهديده للمنطقة وهذا هدف إسرائيلى استراتيجى: أولاً تحويل الأنظار عنها.. وثانياً خلق أزمات فرعية، ثم اختلاق أزمة كبرى تكون محور الأحداث فى المنطقة. ويأتى هذا التخطيط الإسرائيلى المنظم نتيجة تراجع دورها وضعف أوضاعها الأمنية والسياسية والعسكرية فى مواجهة قوى إقليمية جديدة.. بدأت بالفعل فى نشر نفوذها وهيمنتها، بل نجحت فى بناء قواعد وتحالفات خارج حدودها، حتى أننا نشهد بناء خريطة جديدة للشرق الأوسط – والعالم أيضاً – ولكن ليس على الهوى الغربى أو الأمريكى أو الإسرائيلى، فهؤلاء لم يعودوا هم اللاعبون الوحيدون فى المنطقة.. رغم كل ما يملكونه من نفوذ وثقل وعلاقات قديمة ومتجددة. ومثلما صرفت وثائق ويكيليكس الأنظار عن إسرائيل إلى إيران.. فإن هدف إسرائيل الثانى هو نقل محور الأزمات إلى الجنوب.. بعيداً عنها.. وتحديداً إلى جنوب السودان.. المهدد بالتمزق بعد الانفصال، خاصة بعد اعتراف قادة الخرطوم بأن الانفصال أصبح أمراً شبه حتمى.. أى أن إسرائيل تريد خلق بؤرة جديدة للأزمات فى الجنوب حتى تنشغل مصر بأزمات الجنوب.. بدلاً من الشرق.. رغم أن المعاهد والمراكز البحثية الإسرائيلية مازالت تعتبر مصر العدو الاستراتيجى الأول لإسرائيل.. إنهم يقولونها صراحة ودون خجل أو مواربة.. ويجب علينا أن ندرك ذلك ونستعد له بكل الجدية. وإضافة إلى السودان..خلقت إسرائيل محوراً آخر للأزمات فى الخليج.. بدءاً بالعراق الذى خرج فعلاً من نطاق الأمن العربى إلى مظلة النفوذ الإيرانى.. باعتراف أمريكا، ومن خلال وثائق ويكيليكس، وهذا كله يخدم إسرائيل.. ويخفف الضغط عنها، فبعد أن هدد صدام بحرق نصف إسرائيل.. احترق العراق كله للأسف الشديد.. ولم يعد العراق الذى عرفناه، وقد لا يعود فى المستقبل القريب. أيضاً ركزت وثائق ويكيليكس على الأطراف التى أشعلت نيران الفتنة المذهبية، ليس فى العراق وحده.. بل على امتداد المنطقة بأسرها للأسف الشديد، وساهمت الأخبار والأفلام المسربة عبر الإنترنت والتى تناولت هذه القضية الخطيرة فى تأجيج نيران الفتنة المذهبية.. حتى بين الشباب، وتحول الأمر إلى سجال الكترونى عنيف بين أبناء الدين الواحد، وكل هذا صنعته إسرائيل والولاياتالمتحدة وبريطانيا.. وأطراف أخرى.. بما فيها إيران، ولكن تبقى إسرائيل هى المستفيد الأول من كل هذه التطورات. حتى أحداث الشمال الأفريقى.. سواء قام بها تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب العربى أو أحداث الصحراء المغربية.. كلها تخدم إسرائيل وتتطور وتتدحرج بسرعة فائقة وغريبة ومريبة أيضاً، وقد يقول البعض إننا من عشاق نظرية المؤامرة، ولكن الواقع المرير يؤكد ذلك.. يؤكد أن هناك مؤامرات متعددة يتم إعدادها وتنفيذها فى إطار استراتيجى أوسع نطاقاً.. وكلها تخدم هدفاً واحداً.. وطرفاً واحداً. ومن المثير للدهشة والحيرة والاستغراب أن مئات الآلاف من الوثائق المسربة لم تتناول البرنامج النووى الإسرائيلى! فبينما يبدو البرنامج النووى الإيرانى فى بداياته، فإن إسرائيل دخلت النادى النووى من أوسع أبوابه، وبمساعدة كافة الدول.. وليست فرنسا أو الولاياتالمتحدة وحدهما، فإسرائيل تمتلك مئات القنابل والرؤوس النووية المتطورة، ولديها ترسانة هائلة من الطائرات والصواريخ القادرة على نشرها وإطلاقها على مستوى العالم بأسره.. وليس أوروبا وحدها، كما تقول عن مدى الصواريخ الإيرانية. وإذا كانت وثائق ويكيليكس كشفت ازدواجية، بل تعددية معايير الكثير من الأطراف والقوى الدولية.. فإنها كشفت عن ازدواجية معايير ويكيليكس ذاتها، فهى لم تتناول كل القضايا، خاصة الملف النووى الإسرائيلى – بذات المصداقية والموضوعية – بل تجنبته من الأساس. وعندما تركز تسريبات ويكيليكس على تركيا ورئيس وزرائها رجب طيب أردوجان ندرك من يقف وراءها.. ومن له مصلحة فى مهاجمته.. خاصة بعد المواقف القوية التى اتخذتها أنقره ضد إسرائيل التى لم تكن تتوقع تدهور العلاقات بين البلدين إلى هذه الدرجة.. وبهذه السرعة الفائقة. فبعد أن كان البلدان يضمهما حلف استراتيجى (الأطلسى) واتفاقات عسكرية وتجارية واقتصادية.. بل ثقافية واسعة، وبعد أن لعبت أنقره أدواراً مهمة فى المفاوضات مع سوريا والفلسطينيين من جانب ومع إسرائيل من جانب آخر.. إذا بنا نشهد انقلاباً خطيراً فى العلاقات، خاصة بعد العدوان الإسرائيلى على غزة العام الماضى.. وبعد الهجوم على قافلة الحرية، لذا ركزت ويكيليكس على تركيا وزعمائها.. والمستفيد هو إسرائيل أيضاً!! ورغم أن ويكيليكس اخترقت أو تم السماح لها باختراق قواعد المعلومات فى وزارتى الخارجية والدفاع الأمريكية، فإنها لم تستطع الوصول إلى «قدس الأقداس».. «ولب الألباب» و «وذروة الأسرار» سواء لدى إسرائيل أو الولاياتالمتحدة.. بل العالم الغربى بشكل عام، فقط تم التركيز على العالم العربى والإسلامى.. لأنه الطرف الضعيف أو كبش الفداء الأسهل.. هكذا يتصورون.. نتيجة واقعنا المزرى.. والمتردى.