آمن المصريون القدماء بالبعث والحياة الأبدية بعد الموت، ولهذا لجأوا إلى التحنيط حتى يحفظ لهم أجسادهم بعد الموت، فبرعوا فيه وارتبط عندها بفكرة الخلود، ليكون أبرز أسرار الحضارة الفرعونية العريقة التي لم يتمكّن العلم بعد من فك طلاسمه. التحنيط هو عملية تتم فيها معالجة جسد المتوفى للحفاظ عليه سليماً من التحلّل، لتحل به الروح وتعيش مرة ثانية للأبد بحسب اعتقادهم، وأطلق الفراعنة على عملية التحنيط "وتي" وتعني التكفين، أي لف الجسد بلفائف من كتان لحفظه، وبدأ التحنيط مع بدايات الأسرة الثالثة، واستمر إلى ما بعد دخول المسيحية مصر. ارتبط التحنيط في مصر القديمة بالمعتقدات، فكان عملاً مقدساً يقوم به الكهنة، الذين تقلّدوا مكانة مرموقة، وكانت طقوسه تُمارس قرب المعبد أو المدفن، وكان يُسمى "المكان المطهر" أو "خيمة الإله"، ويُعدّ علم التحنيط من أشهر وأبرز العلوم التي اشتهر به قدماء المصريين، والتي لم تكشف بعد كل أسراره. تبدأ عملية التحنيط بتجفيف الجسد تماماً، وذلك إما بشكل طبيعي من خلال أشعة الشمس، أو صناعياً بالتسخين في درجة حرارة معيّنة، ومن أهم المواد المستخدمة في عملية التحنيط: الملح، والجير، والنطرون، وشمع النحل، والعسل، والبصل، ونشارة الخشب. وقد اعتمد المصريون القدماء على ثلاث طرق للتحنيط، الطريقة الأولى تقوم على حفظ الأجسام في أجواء باردة، والثانية تتطلّب حقن مواد مطهرة في الأوعية الدموية فتنتشر في الجسم، أما الثالثة تتعلّق بتجفيف الجسم تماماً وحفظه بمعزل عن الرطوبة، وهي الطريقة التي اتبعها قدماء المصريين، والتي تُعدّ الأصعب، كون أنه يُعدّ أمراً أقرب للمستحيل تجفيف الجسم تماماً، لأن الجسم يحتوي على مايقرب من 75 بالمئة من مياه، وتجفيفه كله يعني تقريباً عملية إخلاء تام لكل خلايا الجسم وأجهزته، وهو ما عمل عليه كهنة التحنيط من خلال طريقتين، الأولى: استخدام الحرارة حتى يتبخّر الماء في الجسم، إلا أنهم وجدوا تلك الطريقة صعبة التطبيق، أما الطريقة الثانية والتي اتبعها الفراعنة، فتعتمد على استخدام المواد الكيميائية المجففة التي تمتص الماء مثل "الجير" و"الملح" و"النطرون"، وفي ذلك يكمن سر التحنيط. ويشير علماء الآثار إلى أن تحنيط الموتى عند قدماء المصريين بدأ قبل أكثر من ستة آلاف عاماً، أي أقدم بكثير مما كان يُعتقد، حيث أن المواد التي وُجدت في أقمشة الدفن في أقدم المقابر المصرية القديمة أظهرت أن حفظ الجثث بالتحنيط بدأ عام 4300 قبل الميلاد تقريباً، وتبيّن أن الكتان المستخدم في لف جثث الموتى وُضعت عليه مواد كيميائية لتوفير عازل للحماية ومقاومة البكتيريا، إلا أن تلك الطريقة المستخدمة في ذلك الوقت لم تكن دقيقة مثل عملية التحنيط التي استخدمت لاحقاً لحفظ جثث الفراعنة أصحاب المناصب الهامة والنخبة. ويقول البروفيسور ستيفن باكلي، أستاذ الآثار بجامعة يورك البريطانية: قدماء المصريين اعتقدوا في أن بقاء الجسد بعد الموت ضروري حتى يعيش الإنسان مرة ثانية في الآخرة، ويصبح خالداً وبدون جسد محفوظ لم يكن هذا ممكناً، وهذا ما دفعهم لتحنيط الموتى وحفظ أجسادهم، مشيراً إلى أن استخدام الفراعنة للتحنيط يعود لعام 2600 قبل الميلاد، وهو ما يدل عليه رفات الملكة "حتب حرس" أم الملك "خوفو"، الذي أمر ببناء الهرم الأكبر، كما توجد أدلة من كتان احتوى على مادة الراتنغ، واستخدم في لف جثث الموتى عام 2800 قبل الميلاد تقريباً. ومن جانبه، يوضح د. عبد الحليم نور الدين، أستاذ علم المصريات بجامعة القاهرة، أنه لا يوجد شيء يُسمى لغز التحنيط، فمنذ البداية تمّ معرفة كيف كان الفراعنة يحنطون أجساد موتاهم؟ مشيراً إلى أن السر الحقيقي الذي حافظ على تلك الأجساد هي الطبيعة والمناخ، ودرجة الحرارة ساعدت بشكل أساسي في الحفاظ على أجساد الفراعنة، لافتاً إلى أن المصري القديم اكتشف التحنيط عن طريق ترك الجثث فوق الرمال الحارة التي تغطيها أشعة الشمس، إذ وجد أن الجثة لا تتحلّل سريعاً في الصعيد عكس الجثث في شرق الدلتا، وهذا بسبب عوامل الجو المتغيّرة، حيث أن المناخ في الصعيد كان شديد الحرارة، مما ساعد بشكل كبير في الحفاظ على الجسد، فقام الفراعنة باستخراج بعض الأعضاء من جسد الإنسان التي تتحلّل سريعاً، حتى يتم الحفاظ على جسد المتوفى بهيئته الكاملة. وتصف د. أسماء العوفي، الباحثة في علم التحنيط، كيف تتم عملية التحنيط؟ قائلة: أساس عملية التحنيط هو تجفيف الجسد تماماً، ومنع البكتيريا من الوصول إليه، ووضع الجسد في تربة وبيئة ذي درجة حرارة عالية ومستقرة مثل جو الصعيد، وهذا سر الحفاظ على أجساد الفراعنة إلى الآن، موضحة أن المصريين القدماء كانوا يبدأون عملية التحنيط باستخراج المخ من الجمجمة بالشفط، عن طريق الأنف باستعمال الأزميل والمطرقة، وبعد ذلك يسحب المخ من خلال فتحة الأنف بسنارة محماة ومعقوفة، هذا بالإضافة إلى استخراج أحشاء الجسد كاملة ما عدا القلب الذي اعتبروه مركز الروح والعاطفة، وبذلك لا يبقى في الجثة أية مواد رخوة تتعفن بالبكتيريا، ثم كانوا يملأون تجويف الصدر والبطن بمحلول النطرون ولفائف الكتان المشبعة بالراتنج والعطور، وتجفيف الجسد بوضعه في ملح النطرون الجاف، لاستخراج كل ذرة مياه موجودة فيه، واستخلاص الدهون وتجفيف الأنسجة تجفيفاً كاملاً، كذلك كان المصريون القدماء يقومون بطلاء الجثة براتنج سائل لسد جميع مسامات البشرة، وحتى يكون عازلاً للرطوبة وطارداً للأحياء الدقيقة والحشرات، كما يضعون الرمال تحت الجلد بينه وبين طبقة العضلات عن طريق فتحات في مختلف أنحاء الجسد، لكي تبدو الأطراف ممتلئة، ولا يظهر عليها أي ترهل في الجلد، واستخدام شمع العسل لإغلاق الأنف والعينين والفم وشق البطن. وأضافت العوفي: يتم لف المومياء بأربطة كتانية كثيرة، قد تبلغ مئات الأمتار مدهونة بالراتنج، يتم تلوينها بأكسيد الحديد الأحمر، بينها شمع العسل كمادة لاصقة في آخر السبعين يوماً التي تتم فيها عملية التحنيط، وبذلك تكتمل عملية التحنيط، ويُحفظ جسد المتوفى. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )