أدى تطور الويب التشاركي في السنوات الأخيرة إلى تكاثر ما يسمى بروفايلات المستخدمين، حيث تتطلب كل منصة رقمية للنشر إنشاء بروفايل، أي إنشاء «ملف تعريف شخصي للمستخدم» من الشبكات الاجتماعية إلى منصات التسوق الأونلاين إلى مواقع التعارف والألعاب الإلكترونية والمنتديات والصحف وغيرها. في المقابل إلى جانب الاستخدامات «العادية» للبروفايلات – التي تحترم تعليمات المنصات الرقمية – يمكننا ملاحظة العديد من الاستخدامات «غير النمطية» أو حتى «الاستخدامات الهدامة». على سبيل المثال، منصة فيسبوك الاجتماعية المعروفة على نطاق أوسع، التي يُلزم فيها المستخدم بتقديم نفسه لأصدقائه عن طريق نشر بياناته الشخصية مثل (تاريخ الميلاد، مكان الإقامة، الهوايات، التوظيف، الوضع العائلي.. وغير ذلك). ومن الضروري طرح بعض الأسئلة حول هذه الممارسات لسببين: أولهما أن كل تغيير للبروفايل يكشف عن سر ما في عملية تحويله، فالاستخدامات الأدبية تخبرنا عن أشياء كثيرة حول البروفايلات نفسها. وثانيهما أن الممارسات الأدبية لتغيير البروفايلات تشهد على تحويل معين في الأشكال الأدبية، خاصة في ما يسمى بالتخييل الذاتي. الوظيفة والهوية ولكي أبدأ هذا التحليل، أود أن أتناول قضيتين: 1 ما هي وظيفة بروفايلات المستخدمين؟ 2 عن ماذا تكشف لنا ممارسات إنتاج البروفايلات الأدبية أو غيرها في إنتاج الهوية بشكل عام؟ السؤال الأول يعود بنا إلى التعارض القديم لنموذجي تأويل الواقع: البراديغم التمثيلي والبراديغم الأدائي – أو إذا شئنا أن نقول العملي، ولتوضيح ذلك ببساطة، يمكننا أن نتخيل أن البروفايل هو شكل من أشكال تقديم الذات، أي طريقة لإنشاء علاقة بين دال – البروفايل – والمدلول وهو الشخص الذي يكون بروفايله هو البروفايل الشخصي لا غير، وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن للبروفايل وظيفة المحاكاة، ويقوم بإدراجه في خط الأشكال التمثيلية مثلما تمت ممارستها وتحليلها منذ العصور القديمة، منذ أفلاطون إلى يومنا هذا في هذا الإطار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو حول المراسلة بين الدال والمدلول، وبعبارة أخرى العلاقة بين الحقيقة والخيال: هل البروفايل تمثيل أمين للحقيقة؟ أم أنه خيال رومانسي؟ أم غير ذلك؟ لكنني مقتنع بأن هذا البراديغم عفا عليه الزمن، وأنه يعكس بشكل سيئ للغاية، واقع ممارساتنا الرقمية. البراديغم الثاني – الأكثر أهمية في رأيي – هو البراديغم الأدائي، ولن أستطرد هنا في شرح فكرة الأداء هذه، وهي مفهوم شائع جدا في الفكر المعاصر، منذ أوستين مرورا بالنقاش الذي دار بين سيرل ودريدا، إلى الدراسات الخاصة بالأداء في المسرح أو في تطوير الجندر (أنظر على سبيل المثال جوديث بتلر). على أي حال، فإن الغليان الدائر حول هذا المفهوم يظهر أن هذا البراديغم يكتسب أهمية مركزية أكثر فأكثر في طريقة تفكيرنا في العالم. الكتابة الرقمية وبناء الحقيقة باختصار أود أن أقول إنه وفقاً للبراديغم التطبيقي، فإن البروفايل باعتباره سلسلة من ممارسات الكتابة الرقمية الأخرى يجب النظر إليه باعتباره عملاً إنتاجياً حقيقيًا، في تعبير آخر، لا يتعلق بمسألة عرض حقيقة ما، بل ببنائها. هذا هو السبب في أننا يمكن أن نتحدث عن الجانب العملي للبروفايل: عندما نكتب شيئًا ما على الويب – وأعني هنا بالكتابة كل شكل من أشكال إنتاج الآثار الفكرية – إننا نقوم بذلك بهدف عملي. فنحن لا نريد أن نعرض شيئًا، بل إنجاز شيء على شبكة الإنترنت، مثل اقتناء تذاكر الطائرة، وإدارة الحساب المصرفي، وشراء كتاب، وما إلى ذلك، حتى عندما أكتب تقريراً حول مطعم ما فأنا أفعل ذلك للقيام بشيء ما، وفي الطريقة نفسها، يبدو لي أنه عندما تنشر بروفايلك، فإنك تنتج هوية ولا تقوم بعرضها، ولكي أكون موجودًا، يجب أن يكون لديّ بروفايل على فيسبوك أو تويتر أو على مدونة أو على موقع الجامعة التي أدرس فيها، وإلا فأنا غير موجود، وإليكم مثلا هذه الطرفة: عندما كنت أعمل في إحدى المدارس في باريس، أخبرني أحد الطلاب أنه لم يكن يعتقد أن زميله كان مهندسًا معماريًا، بسبب أنه لم يعثر على بروفايله في محرك البحث غوغل، هذا هو السبب في أن السؤال حول حقيقة البروفايل ليس سؤالا ملائما، فليست المسألة تتعلق في ما إذا كان البروفايل صحيحا أم لا، لأن الحقيقة هي بالضبط ما ينتجه البروفايل: مثلا إذا كان في بروفايلي المؤسساتي أنني أهتم بالفلسفة فأنا إذن فيلسوف، في المقابل إذا كان عكس هذا فأنا لست فيلسوفا. الهوية الافتراضية هذا يقودنا إلى السؤال الثاني: إذا لم يعد التعارض بين الواقع والخيال ذا أهمية بالغة، فهناك تعارض آخر أعتقد أنه يلعب دورا أساسيا. التعارض بين الاستقلالية والتبعية، يوجد دائماً في كيفية إنتاج الهوية – وقد تحدثت عنها في كتابي الموسوم ب(Égarements) الحب والموت والهويات الرقمية (الطبعة الكاملة للكتاب متاحة على شبكة الإنترنت)، وبعبارة أخرى، السؤال المطروح هنا هو معرفة ما إذا كنت نشيطًا وإلى أي حد في بناء هويتي؟ هل أنا من ينتج هويتي – بشكل مستقل؟ أم أن هويتي أنتجت من طرف شيء ما أو شخص آخر؟ ومن الواضح أن هذا السؤال لا يختص بالممارسات الرقمية: في الفضاء (ما قبل الرقمي)، هويتي متعالقة وتابعة – على سبيل المثال، في وثائق هويتي، في الاسم الشخصي الذي فرض عليّ، في ما يفكر فيه الآخرون ويقولون عني – مستقل- في طريقة تقديمي لشخصيتي وارتداء ملابسي وردود أفعال سلوكي، لكن في الفضاء الرقمي، يتميز هذا التعارض بطريقة خاصة. إنها عملية تحرير رقمي. ويمكن تعريف التحرير الرقمي في كونه مجموعة من الممارسات المشتركة تكون غايتها إنتاج محتوى في الفضاء الرقمي. هذه الممارسات تسمح لنا بمعالجة الواقع وبنائه أيضا. وهي تستند إلى لعبة بين التدقيق، غير المستقل، للمنصات والخوارزميات وسلوكيات الآخرين والحرية – الاستقلالية – في أفعالنا الخاصة. بشكل ملموس عندما أنتج بروفايلا، فأنا حر جزئيًا في تقديم هويتي كما أريد: أختار صورة، وأقدم نفسي للعموم على منصة رقمية ما، وأحاول إظهار ما يبدو لي أكثر ملاءمة مع شخصيتي – وهذا ما أعرّفه بأنه «الهوية الافتراضية» في الأعمال السابقة (هنا على سبيل المثال)، ولكن في الوقت نفسه، يتم تحديد هذه الهوية من خلال المنصة التي تفرض عليّ معاييرها، ومن خلال تعليقات الآخرين والتفاعل معها، وأيضا من خلال المعطيات التي تم تجميعها حول شخصيتي من قبل محركات البحث… هذا ما يمكن أن أسميه ب»الهوية الرقمية». وبهذا المعنى، فإن إنتاج بروفايل يعني «كتابة الذات»: أن نعالج ماهيتنا عبر سلسلة من الأجهزة التقنية والثقافية والممارسات المشتركة التي تحدّ من حريتنا وتؤطرها. الأدب واستقلال الذات إن الممارسات الأدبية تساعدنا على فهم هذا التوازن المعقد، تعمل مختلف أشكال التحول على إجبار المنصة على القيام بما ليس من المفترض القيام به، حيث يتم تحويل التبعية إلى الاستقلالية. وبهذه الطريقة، يتم الكشف عن الأجهزة التقنية وفي الوقت نفسه تكييفها وملاءمتها. يصبح الأدب ممارسة للتحرير الرقمي، الذي يحاول معالجة الواقعي من خلال استعادة أكبر قدر من الحرية والاستقلالية، أو إن الإنتاج الأدبي كذلك هو شكل لإنتاج معياري للواقع، والسؤال المطروح هو ليس ما إذا كانت هذه الممارسات صحيحة أم وهمية، بل ما هو معناها السياسي: ما هو الواقع الذي تنتجه؟ ما هو موقعها الذي تحتله في مجموع ديناميات التحرير الرقمي للواقع؟