تتكرر كلمة “قُتل مسموما” أمامنا بكثرة، سواء كنا نقرأ شكسبير ونحاول فهم دوافع هاملت للانتقام لأبيه، أو نقرأ عن محاكمة سقراط الذي اختار أن يتجرع السمّ، أو نتصفح تاريخ الملوك والرؤساء الذين يَعتقدُ الكثيرون أن بَعضهمْ قتل مسموما. ولا يقف الأمر عند ذلك، إذ هناك حكايات عن أولئك الذين يتجرعون كميات صغيرة من السم كلّ يوم، ليكتسبوا مناعة ضده، وحكايات عن سموم خارقة لا تترك أثرا خلفها، وأفراد لديهم مناعة طبيعيّة ضد السموم . الأمثلة السابقة تجعل السمّ موضوعة ثقافيّة، تولّد سرديات وسلوكيات مختلفة، مازال بعضها يَحضُر في حياتنا اليوميّة كأساطير شعبيّة، كالنصيحة التي نسمعها عن تجنب التهام بذور التفاح، لأنها سامة وتحوي الزرنيخ. ندخل “قصر الاكتشاف” في العاصمة الفرنسيّة باريس، ونحن نقرأ عبارات مطمئنة على الباب، تخبرنا بأن كل شيء آمن، وأن ما وراء الزجاج لا يمكن له الخروج من القفص، والسبب أن القصر يستضيف معرضا بعنوان “سُم”، نشاهد فيه أكثر من ثلاثين فصيلة من الحيوانات والحشرات التي تعتبر الأكثر سميّة في العالم، والتي عادة ما تُسقط الفرد ميتا بحركة واحدة، كأفعى “المامبا السوداء”، التي نراها من وراء الزجاج تحدقّ بالزوّار، وكأنها تنتظر اللحظة المناسبة. الحياة الطبيعيّة كعمل فنيّ ما يجعل الموجودات التي نراها في المعرض موضوعات فنية، هو أسلوب العرض المصمم بدقة ليخلق لدينا أثرا محددا، ولا نقصد هنا المجسمات أو المنحوتات التي يزخر بها المعرض، بل الكائنات الحيّة، الأفاعي والعناكب والسحاليّ، التي لم تُعرض بوصفها ستخضع لعمليات طبيّة وعلميّة لاستخراج السمّ منها، بل ضمن مستودعات/أقفاص شفافة، تُماثل بيئتها الحقيقية، سواء على صعيد التصميم أو المكونات الطبيعيّة داخل القفص، فبعض الحشرات والحيوانات يمكن أن تموت في حال تغيرت شروط حياتها، كالضفادع السامة الزرقاء، التي تعيش في السافانا في ظل رطوبة عالية، وتقتات على أنواع محددة من الحشرات. شروط الحياة التي تتطلبها الكائنات السابقة، تجعل كل قفص أشبه بعمل تجهيز يسعى عبر مكوناته الجماليّة والفيزيائيّة، لمقاربة الموطن الطبيعيّ أو الأصلي لكل واحد من هذه الحيوانات والحشرات، ذاك الموطن الذي لم يخربه التدخل البشريّ، إذ هناك جهود لاحتواء هذه الكائنات، بصورة لا تشعر فيها بالعدوانيّة، بالرغم من أنها تحت أعين الجميع، وخصوصا أن أغلبها بريّة ولا تُدجّن، فهي أسيرة، وإفرازها للسموم مرتبط بالأعداء من حولها، وهذا ما يجعل أنظمة الاحتواء التي تخضع لها شديدة الاصطناعيّة، حتى النظام الغذائيّ الذي تخضع له، تم تصنيعه خصيصا كي تبقى حيّة، وكأننا أمام عمل فنيّ لا ينتهي، كون مكوناته الداخليّة تتطلب التدخل الدائم، لتحافظ على شكلها و”حياتها”. الرعب الخفيّ هناك إحساس غريب بالفزع يصيب الزائر، لا فقط بسبب منحوتات الحشرات السامة ذات الأحجام الكبيرة، بل بسبب وجود كائنات حيّة سامة تحدق بالفرد، بالرغم من الزجاج الشفاف، فقليلون مثلا تجرأوا على لمس الزجاج، وخصوصا أن محاولة لمسه، قد تنبه أفعى المامبا السوداء، التي لن تخترقه أبدا، مع ذلك، الإحساس بالخطر حاضر في فضاء العرض، كذلك الذي يعتري المتورطين في عرض فنون أداء، لكن الاختلاف، أن الجمهور نفسه مُهددٌ بالخطر لا المؤدي، وما يزيد من حدة الأمر، أننا نقرأ معلومات وحكايات عن كل واحدة من هذه الكائنات، تجعلها شديدة الغرابة والإكزوتيكيّة ومطابقة لمُتخيلنا عنها. يتلاشى هذا الرعب حين ندخل إلى القسم الذي يشرح لنا كيفية استخراج السموم، ليتحول ما كان خطرا وغريبا إلى موضوعة طبيّة وعلميّة، بسبب الجهود البشريّة المختلفة لتفكيك السموم واستخراجها، وتوظيفها في الأدوية ومستحضرات التجميل. أقفاص الحياة الاصطناعيّة يحيلنا المعرض إلى نظرية “الأرض المسمومة” لا بسبب التسميّة، بل بسبب آلية الاستعراض التي نراها في المتحف، فنحن أمام صيغة اصطناعيّة، تخفي وراءها عمليات الصيد والعزل ثم النمذجة للاستخدام الطبيّ أو الترفيهيّ، ففضاء العرض واجهة لجهود سياسية، تتجلى في الحكايات المرافقة للكائنات الحيّة الموجودة في الأسر، والتي تخبرنا عن أصل كل حيوان أو حشرة، كالعنكبوت الأزرق ذي الوبر السام، الذي يعيش في فينزويلا، والذي بعد صيده نراه كباقي الحيوانات والحشرات، في أقفاص شفافة، لتسليتنا وتخويفنا في ذات الوقت، ليأتي بعدها “العلم البشريّ” ويكشف لنا عن تفوقه وقدرته على “نزع الخطر” من تلك الكائنات “الغرائبيّة”. العمليّة السابقة، “الصيد، العزل، نزع الخطر والاستعراض”، هي التي تسمم الأرض، بوصفها تغيّر من الخصائص الطبيعيّة للكوكب، لدرجة أن بعض الكائنات لم تعد قادرة على الحياة في مواطنها الطبيعيّة، كون “الأرض” لم تعد صالحة، ولا بديل سوى الأقفاص عالية الجودة.