معرض "المظاهر" يقدم بورتريهات لأفراد يرفضون التصنيف الثنائيّ المتمثل بالذكر والأنثى، في محاولة لجعل الداخلي والخفيّ لدى كل منهم يطابق الخارجيّ السياسيّ والمرئيّ. تحوي هوياتنا كأفراد، أشكالاً وصورا سابقة على وجودنا، تحدد أدوارنا وكيفية ظهورنا، فمرجعيتنا عن أنفسنا والاعتراف الذي نسعى له، مُرتبطان بالاقتباس الذي نمارسه للدور المثاليّ، المبنيّ سياسياً واقتصادياً وثقافياً. هذه الأدوار والفئات التي تنتجها وتصنفها، تخلق الاختلاف بيننا، وفي كل مرة نمارس فيها سوء الاقتباس، لا نتلاعب فقط بظهورنا الشخصيّ، بل بالدور "المتخيّل" نفسه، لتأتي الفوتوغرافيا هنا بوصفها توثيقاً وتجريباً للأشكال المخالفة للظهور "الرسمي"، وخلخلة العلاقات التي أنتجته، لتصبح عين الكاميرا وسيلة للعب، ومساحة لتداخل الحدود بين الجديّ واللاجديّ. يشهد متحف La Graineterie في مدينة أويل، القريبة من العاصمة الفرنسيّة باريس، معرضاً بعنوان "المظاهر"، والمقصود هنا الطريقة التي نكون فيها مرئيين للآخرين، إذ يحاول المعرض عبر الأعمال الفوتوغرافيّة والأفلام القصيرة لخمس فنانات من مختلف أنحاء العالم، تقديم رؤية جديدة للآخر أمام الكاميرا، ذاك المحكوم بالتحديقة الذكوريّة، التي تبني الأدوار، وتُصنف الأفراد على أساس هيمنة الدور المذكّر، مُحاربةً الأشكال التي تخالفها. فالصور التي نراها تتحدى مفاهيم الهوية الجندريّة التقليديّة، التي تحمل خصائص متخيّلة، تساهم بتكويننا بطريقة قد تكون مخالفة لرغباتنا، لكن لا بد من الالتزام بها ورموزها. أول ما نشاهده هو مجموعة صور بعنوان "معصوب العينين"، لكل من الفنانتين الفرنسيتين جوانا بينانوس وإلسا بارا، والتي أنجزتاها في جزر الكناري العام الماضي، ساعيتان لخلق عوالم مستوحاة من الأحلام، تخلخل الأدوار الاجتماعيّة والفضاء الذي ينتجها، مُستفيدتان من هشاشة الأرض البركانيّة والتغيّرات الدائمة فيها وقدرتها على خلق أدوار جديدة، بسبب حركة “المكان” الدائمة. كأن اللاثبات في الأرض، ينعكس على الصور، التي تتداخل فيها أدوار الرجولة مع أدوار الأنوثة، وكأنها محاولات لالتقاط لحظات من الثبات المؤقت، ضمن عملية التغيير الدائمة وبناء الهوية المستمر، وهذا ما نراه أيضاً في الأزياء التي تتنوع وتختلف، أشبه بتلويحات مفتوحة على التأويل. تتضح الأسئلة الجندريّة أكثر لدى الفنانة (آن سوفي غوية) في مجموعتها “الذات الداخليّة”، إذ نشاهد بورتريهات لأفراد يرفضون التصنيف الثنائيّ المتمثل بالذكر والأنثى، في محاولة لجعل الداخلي والخفيّ لدى كل منهم، يطابق الخارجيّ السياسيّ والمرئيّ، أي مساءلة العلامات التي تميّز كل دور اجتماعي عن آخر، كطول الشعر واللباس وغيرها من الأشكال الثقافيّة المسيّسة التي تحدد الأدوار مسبقا، وكأن هذه البورتريهات محاولة للتحرر من ضوابط الخارج، والانفتاح أمام عدسة الكاميرا واختيار الشكل الذي يريده كل فرد لذاته، بوصفه انعكاسا لنظرته لذاته، لا مجرد تقليد للدور الرسميّ وخصائصه الشكليّة. كأن اللاثبات في الأرض، ينعكس على الصور، التي تتداخل فيها أدوار الرجولة مع أدوار الأنوثة، وكأنها محاولات لالتقاط لحظات من الثبات المؤقت، ضمن عملية التغيير الدائمة وبناء الهوية المستمر يتيح لنا المعرض مشاهدة فيلم صفاء الكبيرة (2014)، للمخرجة المغربيّة رندة معروفي، والذي تحكي فيه قصة شخصية حقيقية باسم صفاء الكبيرة، وهي رجل يؤدي دور امرأة، مخفيا هويته الحقيقية عن العالم، فصفاء التي كانت تعمل في منزل المخرجة في المغرب، لم يعلم أحد هويتها الحقيقية، وتتحول في الشريط إلى موضوعة جمالية ثقافية، يتداخل فيها الوثائقي مع المتخيل، وخصوصا أن الفيلم يحوي تعليقات من كانوا حولها وشكوكهم حول شخصيتها، وكأننا نكتشف التناقضات بين الصورة المتخيلة عن الدور التي يبصرها الآخرون و”يؤمنون” بها، وبين الرغبة الداخليّة للفرد بأن يظهر كما يريد، وجهوده لتفادي التمييز والعنف في بعض الأحيان. التناقض السابق يتضح أكثر في فيلم قائمة فرنسا (2006) لفاليري مروجين، والذي نراه أقرب لل”photo montage”، إذ نشاهد مجموعة من صور المنتقاة من مجلة “قائمة فرنسا” التي كانت تصدر في السبعينات من القرن الماضي، مع وصف لما يحدث فيها بصوت المخرجة، ما يخلق المفارقة بين الصورة المتخيّلة التي تقدمها المجلات، وبين الصوت الحقيقي للفنانة. تؤدي” المرأة” في صور المجلة مبتسمةً للذكور، وسعيدةً طوال الوقت، ومستعدةً في أي لحظة لأن تكون غرضا جنسيا، في حين أن صوت المخرجة يبدو محايدا، أشبه بممثل يردّد كلمات لا يؤمن بحقيقتها، وهنا تكمُن القيمة النقدية للشريط، الذي يحاكم الصورة المصطنعة لربّة المنزل السعيدة، عبر الصوت الذي يفضح هشاشة هذه الصور ووهميتها، ومأساة السعي لمطابقة دور المرأة الذي تروّج له. أكثر الصور أهمية على المستويين العالميّ والفنيّ هي تلك التي تقدمها الفنانة الجنوب أفريقيّة زانيلي موهولي، التي تتحدّى فيها الصور النمطية للمثلية الجنسيّة، وسياسات الإخفاء الممارسة ضد المثليات والمثليين، لتكون أعمالها محاولة لجعل الهويات الجنسيّة المختلفة أكثر مرئية، وحاضرة في السياقات اليوميّة المختلفة، بل حتى تدعو إلى تجاوز التصنيفات، وقبول الإنساني بكل أهوائه ورغباته، بعيدا عن المعايير المسبقة التي تدّعي الصحة.