الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور ينقذ المسرح المصري من ضعف النصوص وهروب النجوم. لا تزال مسرحيات الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور تحظى بإقبال كبير لدى مخرجي المسرح في مصر، الذين يعيدون اكتشافها باستمرار وتقديمها بصيغ إخراجية جديدة تضاعف من دلالاتها وحضورها وتأثيرها، مستفيدين من قوة موهبته الشعرية وتمتع أعماله المسرحية بعناصر الصراع، وهو ما ينسحب على غالبية أعماله المسرحية، وتغطي موضوعات الشاعر حالات سياسية واجتماعية ونفسية ودينية. في خضم ضعف بعض النصوص المسرحية الجديدة بمصر، وجد مخرجو المسرح الشباب ضالتهم في أعمال الراحل صلاح عبدالصبور، أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي، بحياكته الشديدة لأبطال مسرحياته التي جعلها حبلى بقضايا وصراعات صالحة لكل زمان ومكان، وحصل البعض من المخرجين على تذكرة مرور خضراء إلى قلوب المشاهدين. أعاد المخرج الشاب محمود فؤاد قبل أيام، تقديم مسرحية “مسافر ليل” بمركز الهناجر بدار الأوبرا المصرية، في الذكرى ال37 لرحيل عبدالصبور، بتصميم المسرح على شكل عربة قطار، ليضع الجمهور مع الممثلين في مكان واحد يتسق مع هدفه في إظهار سلبية الشعوب، مختلفا عن عشرات العروض السابقة التي قدمت المسرحية ذاتها. تنتمي “مسافر ليل” إلى تيار التجريب المسرحي المنطلق من عباءة مسرح العبث الحديث الذي يعكس الواقع الاجتماعي المؤلم، ويمتاز بقلة عدد شخوص أعماله وجريانها بمكان ضيق أو محدود جدا، وتعتمد على الحوار الذي لا يهتم أحيانا بعنصر التوصيل أو الترابط، لكن عبدالصبور تجاوز تلك المشكلة بحوار متماسك يتسم بانتقالات منطقية. مع ضعف رواتب الممثلين بمسرح الدولة، والمجهود الشاق المطلوب للوقوف على “الخشبة”، هجره معظم النجوم إلى الدراما التي تحقق عائدا ماليا جيدا، ما اضطر بعض المخرجين إلى الاستعانة بمغمورين، لأن المحك النص القوي الذي يجذب الجمهور والشهرة الواسعة للمؤلف، التي قد تدفع الجمهور إلى الحضور، بصرف النظر عن أسماء الممثلين أو المخرج. تدور أحداث المسرحية، التي تم نشر نصها عام 1968، داخل عربة قطار بين “مفتش التذاكر” ويجسده الفنان علاء قوقة ممثلا للسلطة الباطشة، و”راكب” يجسده الفنان مصطفى حمزة، ممثلا دور المثقف، بالإضافة إلى الفنان جهاد أبوالعنين في دور الراوي أو الشعب، ويطرح العرض العلاقة الجدلية بين الفرد والسلطة والتي تنتهي بانتصار الأخيرة وقتلها المواطن. تمتاز نصوص عبدالصبور، الذي ولد في 3 مايو 1931، بمدينة الزقازيق على بعد 80 كيلومتر من القاهرة، بالشعر الحر المعتمد على “التفعيلة” والرمزية والموسيقى الداخلية المناسبة بين الألفاظ والتحرر من القافية الواحدة، بما مكنه من تطويع قضايا السياسة والدين الشائكة، وحتى الصراع النفسي، والنزول بها من برج عاجي إلى لغة خاصة تلعب على وتر السهولة والرصانة بالوقت ذاته. احتل عبدالصبور المرتبة الثانية في المسرح الشعري بعد أمير الشعراء أحمد شوقي، رائد المسرحية الشعرية بمصر، لكن الأول كان الأكثر حضورا على المسرح فائزا في معركة اللغة وتطويعها والصراع وإدارته عبر أسلوب شعر درامي. اختار شوقي أبطاله من الصفوة بلغة راقية تناسب طبيعتهم في مسرحياته (مجنون ليلى، عنترة، كليوباترا، قمبيز، علي بك الكبير، الست هدى) لكن عبدالصبور فضل الحديث في أعماله (بعد أن يموت الملك، الأميرة تنتظر، مسافر ليل، ليلي والمجنون، مأساة الحلاج) عن الفقراء والجوع والعدل بلغة حرة رشيقة متحررا من الوزن والقافية التي سيطرت على شعر أمير الشعراء. توظيف مستمر تعتبر “مسافر ليل” بحكم توظيفها المستمر الأكثر شهرة بين مسرحيات عبدالصبور، ويعتقد المخرجون أنها الأكثر درامية في أعماله، لكن يبدو أن هناك سببا آخر خلف ذلك الحضور، نابعا من أنها الأسهل نقلا إلى المسرح، فالمشاركون لا يتجاوزون “الراوي وعامل التذاكر والراكب” وتعتمد كثيرا على الحوار الذاتي. يقول محمود صدقي، مخرج العرض الأخير ل”مسافر ليل”، “إن نصوص عبدالصبور صالحة لفترات طويلة، ويبقى على من يقدمها اكتشاف طرق جديدة لجعلها أكثر إبهارا، مثل تقديمها داخل عربة قطار تضم الجمهور ليصبح جزءا من العرض”. ويضيف أنه لجأ إلى حيلة ذكية لزيادة عدد المشاركين في المسرحية من ثلاثة إلى 60 بإدخال الجمهور إلى العربة ليلعبوا دورا سلبيا كمشاركين للراكب أو المسافر في تعرضه المستمر للبطش أو القهر من قبل عامل التذاكر الذي يمثل المستبد في كل العصور. كان رهان المخرج الشاب على مسافر ليل لحجز مقعد مع الشهرة ناجحا، فالعرض جذب ثلاثمئة من المشاهدين، بينما الديكور كان مصمما لستين متفرجا فقط يمثلون متوسط العدد المتوقع للجمهور الذي يحضر عروض المسرح القومي بمصر، ما دفع المنظمون إلى تجهيز مقاعد إضافية ووضعها خارج الديكور لاستيعاب الجمهور الذي استهواه اسم عبدالصبور قبل العرض.