الميت ليس من يغيب جسده، والحي ليس من يتنفس.. إن لغز الموت مثل لغز الحياة .. حينما نكون في البرزخ بينهما، لا نعي إذا ما كنا ضمن قائمة الموتى أو على قيد الحياة، هل أرواحنا تطوف وتحط على الأرض، أم أن أقدامنا تسرع الخطى الى حياة أخرى؟. تلك هي المشرحة/ الكابوس التي يأخذنا إليها الروائي برهان شاوي. الحياة التي لم تعد حياة، والموت الذي يأتي في كل وقت خارج السياق المتعارف عليه. كابوس إثر كابوس لا ندري ما إذا كان ( الحارس آدم) حياً يرزق، أم ميتاً يتوهم الحياة. لا خلاص للإنسان الذي اعتقد أنه سيد الكائنات، وأن الكون خُلق لإجله. لا خلاص له من الفناء الذي يتربص به من أمامه ومن خلفه ومن الاتجاهات جميعها، لكن آدم الحارس قبل ذلك، قبل أن يفكر بكينونته من عدمها، انتابته حمى التساؤلات عن معنى وجوده، أو معنى حياته وموته في هذه المشرحة ، حيث يدخل كابوساً طويلاً مع الجثث التي يحرسها. هذه المشرحة التي أراد لها المؤلف أن ترمز للعراق، العراق الذي يتآكل بفعل الحروب والفوضى والإرهاب واقتناص الفرص على حساب الضحايا، بمجهر إبداعي دقيق يكشف لنا حقيقة مجتمعنا الذي نخرته الحروب وعاث به الفساد. إنها رواية الفزع الذي نعيشه كل يوم ،ونحن نواجه الحياة بموت يترصد لنا في المنعطفات، ولا يترك لنا فسحة للسلام بعد الموت. ستتناسل الأسئلة في هذه الرواية ولا تجد لها أجوبة، يدرك برهان شاوي أن الأجوبة في مثل هذه الرواية ستقتل العمل الإبداعي، لذلك يتركها لنا نحن القراء المتعطشين للبحث عن الأسباب والمسببات والأجوبة في أدق ثنايا العمل، نحن الذين نشبه ( أوادمه) و( حواءاته) سواء كنا داخل المشرحة أو خارجها، في عمق العتمة التي تسكننا، أو تحت الضوء الباهر الذي لا يترك لنا وضوح الرؤية. ندخل المشرحة من أبوابها المفترضة ونلج فصولها التي تبدأ بفصل( الذبح بسكين المطبخ في البانيو) وتنتهي بفصل ( صباح الجثث) وبين تلك السكين الباشطة، والصباح المضطرب المتناثر بالجثث.. ثمة ميتات بشعة على أيدي من يعتقدون أن قتل الأحلام وإزهاق الأرواح، هو الطريق المؤدي الى الجنة. بعد أن توصد أبواب المشرحة، حين ينتهي الشطر الأول من الليل، في ليلة اختفى فيها القمر، وقبل ان يأوي آدم الحارس الى فراشه يقوم بجولة تفقدية للتأكد من إقفال الأبواب، ثم العودة عبر الممر الذي فيه غرفته، وكذلك قاعة تشريح الجثث الجديدة والممرات المؤدية الى الثلاجات التي تحفظ فيها الجثث المجهولة، وما أكثرها في زمن اختلّت ساعاته وانقلبت موازينه، وحينما يعود يزجي بقية ساعات الليل بمشاهدة أفلام جنسية.. لكن تلك الليلة التي اختفى فيها القمر، وتكثفت الظلمة كان على موعد مع أحد الأقراص، زوده به بائع الأفلام الجنسية، قرص يحتوي على عملية ذبح شاب، ذبح على الهوية.. كان ذلك أول كابوس يتسلل إليه، تلتها كوابيس أشد هولاً، ويمكن القول على وجه الدقة إن كل فصل من فصول الرواية، هو كابوس رعب لا نخرج منه إلا ونجد أنفسنا داخل كابوس أكثر رعباً، حينما يحرّك برهان شاوي شخصياته الميتة بفعل الإرهاب لتأخذ زمام الأمور، وتتحدث بما لم تكن تتحدث به حينما كانت على قيد الحياة. تكاد أنفاسنا تتقطع ونحن نمضي من حكاية الى حكاية ترويها الجثث، ثم يتلاعب الروائي بمشاعر القارىء ويوقعه في دائرة الشك والتساؤل: من هو الميت؟ الحارس والأطباء وكادر الممرضين، أم هذه الجثث الطازجة التي شوهتها الأعمال الإرهابية؟ نحن أم قتلانا الذين فقدناهم الى الأبد؟ هذه المنطقة، منطقة الشك الذي ينتهي الى يقين، أو اليقين الذي يقود الى الشك، هي التي يلعب عليها الروائي في روايته " مشرحة بغداد". الحارس آدم الذي لم يعد يعرف هل يعيش وهماً أم حقيقة، يثير فينا كل التساؤلات المستحيلة الغامضة التي لا تفضي الاّ الى تساؤلات أكثر استحالة وأكثر غموضاً حتى نهاية الرواية التي تقع في 158 صفحة من القطع المتوسط ومن إصدارات الدار العربية للعلوم ناشرون 2012. مهنته كحارس للجثث ورؤيته عمليات التشريح غيّرت مسارات حياته ونظرته للبشر، نقرأ على الصفحتين 29 و 30 " دمّرت هذه المهنة حياة آدم، ليس بالمعنى المادي، فهي على العكس ضمنت له راتباً شهرياً ومأوى جيداً، لكن حياته دُمّرت من جانب آخر، إذ لم يعد يرى في الناس سوى كتل لحم بشعة، وجيف تمشي وأحشاء مليئة بالبراز والفضلات النتنة.. ما إن ينظر لرجل سمين حتى تبرز في خياله طبقات الدهن المتراكمة، التي على مساعد الطبيب أن يسلخها مع الجلد عند فتح الجثة، وكذا الأمر حينما يرى رجلاً نحيلاً فإنه يفكر في سهولة شق بطنه وفتح قفصه الصدري، كما يرى الأحشاء والأنسجة اللزجة التي تغطي البطن والصدر عن النساء، وكيف يتحول النهد الذي يتغنى به الشعراء ويثير شهوات الرجال الى كتلة بشعة من مادة طرية لزجة، وكيف ينكمش النهد عند فتح الصدر ويتحول وكأنه قشرة تين مهروس.. لقد قضت هذه المهنة على أحلامه ورومانسيته وشاعريته، لم يعد يفكر في الحب على الطريقة الشرقية، ولم يعد يفكر في الزواج وتكوين عائلة، ولم يعد يفكر في المجتمع البشري وآلامه الاجتماعية، صار يؤمن أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا يريد البشر النظر إليها، وأن الانسان هو أبشع المخلوقات على هذه الأرض" . إنها عتمة النفوس التي فقدت إنسانيتها عند الضحية والجلاد على السواء،وإنه الرعب الذي تعيشه شخصيات برهان شاوي ونعيشه معها كقرّاء مستذكرين كل الذي جرى لأحبتنا في حمّى القتل المجاني، وإنها المشرحة التي اختصرت الوطن، أو الوطن الذي تحول الى مشرحة وكابوس خانق. إنه التساؤل سواء على لسان الشخصيات الميتة ،أو الشخصيات الحية التي بعد حين سنشك في ميتتها أو حياتها: من منا الميت ومن منا الحي؟ هل آدم الحارس يقص علينا حكايته من وراء الموت، أم أن الكابوس الذي يعيشه انتقلت عدواه لنا فوقعنا في دائرة الشك والحيرة، مما نسمع ونرى ونحن معه داخل هذه الفانتازيا التي لا نعرف أين ستنتهي؟كلما وقفنا عند محطة تقترب من الواقع أخذتنا محطة أخرى الى الوهم، وكلما خرجنا من محطة الوهم الى وجه الحقيقة عدنا ثانية اليه، وبهذا يمسك الروائي بمشاعر القارىء حتى رمق الرواية الأخير. ثمة حكايات كثيرة في نسيج هذا العمل المتميز، إنها حكايات جثث النساء التي تحكي كل واحدة حياتها السابقة، وما تعرضت له فأفقدها جذوة الحياة. سأترك هذه الحكايات للقارىء لأن كل واحدة منها تحتاج الى وقفة قد تطول. ما يمكن الإشارة اليه هو أن هذه الجثث، جثث النساء والرجال، الجثث المجهولة التي لا هويات شخصية لأصحابها، بعد أن تسرد حكاياها تقرر الهرب من المشرحة لتواصل ما انقطع في حياتها بعد الموت، وهذا ما اكتشفه آدم الحارس ذات ليلة.. لكن الى اين هربت، متى وكيف ولماذا؟. تلتصق بنا أسئلة الوجود التي يطرحها برهان شاوي على لسان بطله آدم الحارس، وأحياناً على لسان الراوي المختبىء وراء الشخصيات. هي ذاتها الأسئلة التي يسألها البشر منذ آلاف السنين عن حقيقة الوجود، تأتي هذه المرة في سياق عمل فني متقن، إذ يكتب في الصفحة 130" هل الوعي بالوجود هو سر الحياة، وعكسه هو الموت؟ ومن يؤكد لنا بأن الأموات لا يعون الوجود؟ أو أنهم رماد نثر في نهر، كما الهنود؟ من المؤكد أن ما يميز حياة الإنسان هو روحه وليس حياة الجسد فحسب، وإلاّ فمن نحن عندما نكون نياماً؟ بل أين يذهب وعينا عند النوم؟ فعلى الرغم من أن وظائف الجسد الأساس تعمل بدقة الا أن الانسان ليس هو الإنسان عند النوم، وإلا فليسأل كل شخص منا نفسه بعد أن يستيقظ من النوم أين كان هو كإنسان، كوعي وشخصية وأفكار ومشاعر خلال ساعات النوم؟" . تبلغ الرواية أوج ذروتها عند فصل" حراس السجن المظلم" وتنتهي بالذروة ذاتها بفصل "صباح الجثث" ، وبالبحث عن إجابة لسؤال ظل معلقاً على شفتي آدم الحارس حول حقيقة وجوده من عدمه ،في تلك اللحظات التي وقف فيها خارج المشرحة عند منعطف الشارع مع جثة الصبي الوحيد الذي لسبب ما لم يهرب، باحثاً عن الجثث، أو عمّن يجيبه عن سؤاله، لكن لا أحد يأتي.. بهذه العبارة التي جاءت على لسان الصبي تنتهي الرواية. نعم.. لا أحد يأتي، ليقول أيّنا الميت وأيّنا الحي في عراقنا المشرحة؟ . ---- * أديبة من العراق مقيمة في كندا