في مجموعته الشعرية الأخيرة التي حملت عنواناً رئيساً هو «الحب شرير»، مشفوعاً بعنوان فرعي يصف المجموعة بأنها «طوق الذئبة في الأُلفة والاستذآب»، يخوض إبراهيم نصرالله تجربة شعرية رؤيوية جديدة، موضوعها الحب. ولربما لم يخل ديوان من دواوينه السابقة من قصائد تتناول الحب موضوعاً وعاطفة، لكنه في هذا العمل الجديد يقترح عالماً شعرياً مركباً يضع قارئه في حالة من الحيرة والتأمل والتساؤل، ذلك التساؤل الذي يبدأ من عنوان الديوان الذي يصف الحب بالشرير، ثم يمتد إلى العنوان الفرعي الذي بدا وكأنه مُعارض ل«طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف» لابن حزم، ذلك الكتاب الأشهر لمؤلفه الذي يُعدُّ من نوادر كتب التراث التي غاصت في الحب شارحة فلسفته وأنواعه وأغراضه ومعانيه ومعاناة أطرافه. ثم يذهب الشاعر بمغامرة استعارته لرمزي الذئبة والذئب، ليمثلا طرفي العشق. وهذه القراءة محاولة لدخول هذا العالم الشعري المختلف في رؤيته وصوره ولغته، والقائم على أربعة أركان هي بنيته الفنية: 1 الحب الشرير، 2 أوبرا الذئاب، 3 ظلال الذئبة، 4 اشتعالات. وسوف نقصر معالجتنا لهذا العمل على قسميهْ: الأول والثاني. 1 الحب شرير وإشكالية الصفة القصيدة التي منحت الديوان عنوانه هي قصيدة «الحب شرير» التي يقول مطلعها: الحب شرير يلوك القلب يسحقه بألف حديقةٍ يلقيه للأعلى ولا يتلقف المكسور إذ يهوي على حجر من الصوان يطعمه لذئب الريح في صحرائه الحبلى بطعم الجوع والحرمان يأتي حسب موعده كسلطان وطاغيةٍ ومثل الموت يأتي… والمرض! لا أفقه للقلب مفتوح ولا للطير أرض ثم تمضي القصيدة إلى أن يتماهى الضبعُ والحب: يا ضبعُ خذنا للمغارة يا ضبع ما لك صاحب يا ضبع ما للحب صاحب وإذ تبلغ القصيدة حافة النهاية، يخاطب المحب (القتيل) خصمه الحب (القاتل) بصيغة فعل أمرٍ مهزوم أن: اخرج أمام الناس مسنوناً فلا خوف عليك ولا وقل للسابلة ها قد قتلت فتى القصيدة في القصيدة وابتهج إن الجريمة كاملة. لعل هذه المقتطفات من أول القصيدة ومنتصفها ونهايتها تصور الجو العام لقصيدة «الحب شرير»، التي تمثل ركناً من أركان الديوان الأربعة. على أن وصف الحب بأنه «شرير» يمثل دافعاً مُلحاً للتساؤل عن حكم قيمةٍ سلبي يطلقه الشاعر على الحب، بما هو قيمة إنسانية كونية من دونها يغدو العالم جماعات وأفراداً صحراء خاوية، أو غابة من الوحوش الضارية. ولو سألنا العاشق السعيد بعشقه عن هذا الوصف لرفضه رفضاً مطلقاً، ولو تم توجيه السؤال ذاته إلى محب تعس فلربما وافق على هذا الوصف، أما الإنسان الذي لا يعيش حالة حب بعينها، فلعله يصرح بأنه لا يعرف. هذا على المستوى الإنساني العادي، أما إذا طرح السؤال على مفكر أو فيلسوف أو فقيه مثل ابن حزم (مثلاً)، أو على شاعر مثل نزار قباني وغيره، فمن المرجح أنهم سيردون بإجابات تنطلق من القيمة الإنسانية العليا للحب. وإذ تشط بنا الافتراضات للقول: ماذا لو سمعت أم كلثوم وبليغ حمدي ومرسي جميل عزيز (رحمهم الله جميعاً) الذين أبدعوا معا «سيرة الحب» بهذا الوصف؟ وماذا سيقولون؟ ربما لجأوا للشاعر على بساط الريح احتجاجاً، ولاسترجعت أم كلثوم مقطعاً من تلك الأغنية وصدحت تقول: العيب فيكم يا ف حبايبكم // أما الحب يا روحي عليه في الدنيا مفيش أبداً // أحلى من الحب ويبقى السؤال ماثلاً: لماذا وصف نصرالله الحب بأنه شرير، سواء أجاء عنواناً للديوان أم عنواناً للقصيدة؟ ليس لأحد أن يجيب بدقة عما يعتمل في نفس الشاعر، إلّا الشاعر نفسه، وليس لأحد أن يطالبه بتفسير، فالفن يقذف وعلى القراء أن يتلقفوا، ويستدلوا، ويفسروا. وأستطيع في هذا السياق أن أتصور احتمالات ثلاثة: 1 أن دافع هذا الوصف إنما ينطبق على حالة شعورية زائلة. 2 الغوص العميق في نتائج الحب السلبية بعامة من معاناة وقلق وأرق وتوتر وغير ذلك. 3 قوة الصدمة التي ينطوي عليها عنوان «الحب شرير»، ما يمثل وصفاً جاذباً لجمهرة القراء. إشكالية العشق الذئبي وإذا كان عنوان الديوان الحب شرير يمثل أول حالة صادمة للقارئ، فإن استعارة الذئبة والذئب ليعبرا عن حالة معينة من حالات العشق تمثل الصدمة الثانية، خاصة إذا ما استدعينا صورة الذئب في المخيلة العامة. فالذئب في المخيال الشعبي العربي بعامة يمثل صورة سلبية، وأحياناً وحشية. ولطالما طالعتنا صحف عربية بعناوين من نوع «ذئب بشري يغتصب فتاة قاصرا في». ويبدو أننا لا نعرف عن الذئب إلا خصائصه السلبية من وحشية ومكر ودهاء وغير ذلك. لكن المصادر المعرفية المختصة تشير إلى عدد من السمات الإيجابية لدى الذئب ومجتمعات الذئاب بعامة، منها، مثلاً أن الذئب ذكي واجتماعي ولديه روح قوية، في ما يعيش مجتمع الذئاب حياة منظمة ومتعاونة للغاية، وذات روابط قوية. والذئب يكتفي بزوجة واحدة طوال حياته وهي «وليفته»، وإذا مات أحدهما، يبقى الآخر الحي في حالة حداد متواصل لمدة ثلاثة أشهر، وقد تمتد إلى عام كامل. وقد لفت انتباهي في أحد المصادر أن شعوب «الفايكنغ» كانت تشرب دم الذئب قبل توجهها إلى الحرب، استحضاراً لروح الذئب القوية. وهذه سمة على جانب كبير من الأهمية من حيث صلتها بمحتوى قصائد العشق الذئبي، في هذا الديوان، وبالذات في قسمه الثاني الموسوم ب «أوبرا الذئاب» الذي يحتوي على خمس وعشرين قصيدة تمثل في مجملها سيرة العشق الذئبي الذي ترسمه الحواريات الذئبية، أو أصوات الأوبرا الذئبية المتعددة. من المثير أن نلحظ أن البوح الأول في الأوبرا ينطلق من صوت الذئبة العاشقة التي تأخذ بزمام المبادرة في استنهاض إرادة الذئب، العاشق المتردد، والفرد في القطيع. الذئبة في هذه الأوبرا ذات الأصوات المتعددة، هي التي تبدأ حالة التمرد على القطيع، وهي التي تبث في ذئبها، المقابل، روح التحدي والانطلاق: لتقل كلاماً واضحاً مثلي ومثلك في شمال عوائنا لتقل ولو بعض المخالب أيها الذئب استبح عنقي وصدري بدد عماء الوقت واقفز من دمي لدمي كآخر ذئبة في الأرض قل أي شيء: أطبق الماضي على روحي كأسراب الذباب في «أغنية الذئبة» التي تفتتح «أوبرا الذئاب» تطلق الذئبة صوتها بقوة وثقة بالنفس عالية، وتعبر عن مشاعرها وعشقها دونما تردد في الإشارة إلى رغباتها الحسية، في حالة من التحام الروح والجسد معاً، ذاك الالتحام الذي يولّد الحب الإنساني المتكامل. ذاك جانب، بل هو جانب مهم من صرخة التمرد الذي تعلنه الذئبة العاشقة، أما الجانب الآخر الذي لا يقل عن سابقه أهمية فيتمثل في تمردها على الماضي: نمط القطيع التقليدي الذي ما يزال «الذئب العاشق» قابعاً في «متاهته»، والذي جثم على صدر الذئبة/ العاشقة وأوثق قيوده على روحها. وهي إذ تبدو وكأنها حسمت حالة التمرد على القطيع في مجتمعها تتوجه إلى الذئب/ العاشق المتردد، وكأنها تقول له ما الذي يحول دون لقائنا: ذئبةً وذئباً عاشقين. وهي تمنحه ثقة بالنفس إلى أقصى مدى حين تقول له: يا ذئب أسمعُ خفقه النار العظيمة ملء صدرك في بوحه لها، في متاهته الأولى يعبّر الذئب عن إحساسه بعدم الجدوى واندماجه في القطيع، وأنه يمضي حياته بلا ذات، كأنما يسعى للبحث عن هويته وإرادته. لكنه وقد استمد العزم والإرادة من الذئبة العاشقة، يبدو وكأنه حسم أمره واتخذ قراره: ورائي تركت الشتاء الأخير وقلت أطير إليها لأبلغ نفسي فلماذا أخاف إذن يا إلهي؟ ذئبة في انتظاري؟ أنا ههنا ذئب هذي البراري الوحيد وسيد قلبي وناري لكنه ما يلبث أن يعود فريسة للتردد والخوف مؤثراً الابتعاد، إلّا أن الذئبة تواصل بوحها وبث آمالها ورغباتها، وإذا بالذئب في تناغم الأصوات واتساعها وتداخلها يستعيد ذاته ويبادلها الهوى شعراً وغناء: في هواك موحدُ أنا كل من عاشوا الحياة وكل من لم يولدوا خلاصة تقول أسطورة ما إن للذئب قدرة على التحول إلى إنسان، وللإنسان القدرة على التحول إلى ذئب. وهذا ما فعله إبراهيم نصرالله في ديوانه الأحدث، الحب شرير، حين ألبس الذئاب لبوس البشر بمشاعرهم، ومخاوفهم، وعشقهم، وشجاعتهم، وتمردهم، إيماناً بوحدة الوجود، هذا الوجود الذي يظل بلا معنى إن فقد الإنسان فيه قيم الحرية، والإرادة، والاختيار.