في روايته الجديدة “المحيط الإنكليزي” يتتبع الروائي البحريني فريد رمضان ذاكرة الإنسان في الخليج من خلال سيرة حجر غرائبي يؤرشف لذاكرة شفهية غائبة، ويؤصل لتاريخ بشري مفقود، عبر الحفر المعرفي العميق، والتتبع البحثي الدقيق لهذه الذاكرة التي متى ما عرفناها عرفنا حقيقة الإنسان وجوهره ومخاوفه وقلقه وأسئلته. “العرب” توقفت معه في حوار تناول الرواية واشتغالاتها وأبعادها الذاتية والوجودية. ترصد رواية المحيط الإنكليزي لفريد رمضان -الصادرة مؤخرا عن دار سؤال اللبنانية- ملحمة الأرض وتاريخ الإنسان وطعم الطين، وأرشفة الذاكرة المنسية التي لا يمكن الوقوف على ملامح إنسانها إلا من خلال يوميات المستشرقين في الأساطيل البحرية، أو في الإرساليات الأميركية والبريطانية، أو من خلال وثائق الحملات التبشيرية في شبه الجزيرة العربية التي كانت بأمسّ الحاجة لأدوات الحفر والبحث والتنقيب العلمية الجادة. وهذا ما فعله الروائي البحريني فريد رمضان خلال كتابته للرواية التي اشتغل عليها أكثر من عشر سنوات. البحث والكتابة يقول رمضان متحدثا عن مناخات الرواية “لكل مشروع رحلته الخاصة، ولكنني دائما أبدأ بإجراء مقابلات شفهية مع أشخاص لهم ارتباط بالموضوع، وأترك لهم حرية التحدث والاسترسال في ما يرغبون. أحيانا أستفيد منها كثيرا، وأحيانا أخرى تكون هذه المعلومات غير صحيحة، ولكنها مفيدة أيضا، تشحن المخيلة، وترمي بي في تخوم عالم سرمدي ينبغي عليّ اكتشاف خطواتي وأنا أسير نحوه بحثا عن القصة أو المكان الذي تدور فيه، أعرف أنها موجودة وينبغي عليّ الإمساك بخيوطها الأولى” ويتابع “قادتني المقابلات التي أجريتها في 2005 إلى الوقوع على ثلاثة كتب هامة شكلت المراجع الأولى لاكتشاف شيء من معالم العبودية والتبشير في منطقة الخليج العربي. الأول؛ أن ما تفكر فيه يأتي إليك، والثاني؛ كان لقاء مع رجل أعمال عماني مازالت جذوره العائلية تمتد إلى زنجبار. وأذكر حديثه الشيق عن القصة (الحقيقية/ الأسطورية) لشخصية ‘تيبوتيب‘ المشهور، الذي ترجم سيرته الدكتور محمد المحروقي، والثالث؛ تقرير كتبه مبشر أميركي يسرد فيه قيام مبشر زميل له يدعى بيتر زويمر بتأسيس مدرسة للعبيد المحررين بعد إنقاذهم من سفينة تاجر رق عربي. وفي 14 مايو 2006 وضعت أول معالجة للرواية من ثلاثة فصول. بعدها دخلت في البحث والتقصي للعشرات من الكتب والمراجع أوصلتني إلى مكتبة لندن قسم أرشيف الهندالشرقية، ومكتبة SOAS بجامعة لندن. في هذه الأثناء كانت معالجة الرواية وكتابة الفصول تتغير وتتبدل على مستوى القصة والشكل والبناء”. وفي سؤال عن عنوان الرواية، وإن كانت هيمنة السلطة السياسية الكومونوولثية على الجغرافيا سببا في الاختيار الفني للعنوان “المحيط الإنكليزي” في حين أن فضاءات المكان الجغرافية كانت بين بحور لها أسماؤها العربية المعروفة، يجيب فريد رمضان “أنا كاتب أميل لوضع العناوين قبل الشروع في كتابة أي مشروع، أشعر أن العنوان هو بوابة سوف تفتح لي للعثور على مبتغاي، وإذ يحيل الباب إلى مكون لعالم ما؛ منزل، قصر، قرية، مدينة أو عالم وهمي أو أسطوري، وعلى مدى سنوات كتابة هذه الرواية كان العنوان يتغير ويتبدل، وجميعها كانت تقوم على رحابة هذه البوابات والعوالم. ورغم أن الرواية تعج بفضاءات الجغرافيا من أراض وخلجان وبحور ومحيطات معروفة، إلا أن ‘المحيط الإنكليزي‘ أخذ منعطفا وهميا وحقيقيا يحيل لفرضية تواجدها في المنطقة، وهو أمر صحيح، ولكنه أيضا، بالنسبة إلي رسم سؤالا جوهريا حول فهم العنوان من منظور نقدي أو ثقافي آخر”. المسكوت عنه من الواضح أن الرواية أخذت من كاتبنا فريد رمضان بحثا وحفرا تاريخيا طويلا. فقد كان يبحث في كل هذه السجلات والعوالم عن الهوية والإنسان والتاريخ، حيث تتداخل هذه الأسئلة في تفاصيل الرواية الموغلة في الإعلاء من قيمة الإنسان أمام أقداره المتوحشة. وفي هذا الشأن يرى رمضان أن الرواية هي حقل ألغام كبير، ومخزون من الأسئلة المشبعة بكل أشكال الحياة من القتل والتنكيل والبطش في حق الإنسان ونفسه (الآخر/ الأنا)، وعلينا أن نجيد تحبيك حياتنا. يقول “مع صدور أول رواية لي وهي ‘التنور.. غيمة لباب البحرين' برز السؤال الذي أخذ بيدي نحو البحث والمعرفة في ماهية الهوية والهجرة والاستيطان، عميقا نحو البحث والنظريات العلمية والإنثروبولوجيا والميثولوجيا، وتحولت من خلالها مشاريعي اللاحقة في السرد، إضافة إلى مجرد كونها رواية في ظاهرها فهي بالنسبة إلي بحث يهجس بالقلق المعرفي في فهم المجتمع وإلغاء لمعنى الهوية الأصيلة المغلقة المكرسة. ولو تأملنا الفيلسوف هرقليطس وهو يحدد في تشبيه بليغ له حول فهم الإنسان والفرد ‘إن شخصية المرء هي مصيره‘ بمعنى أن ‘حبكته هي حياته‘ ستقودنا لفهمه ومعرفته”. ويؤكد رمضان أن رواية “المحيط الإنكليزي” تكشف عن صفحة مسكوت عنها في مجتمعاتنا الخليجية القبلية المغلقة، خاصة في ما يتعلق بتاريخ الرق، وحركة التبشير الناشطة في بغداد وصولا إلى مسقط في القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي، وذلك عبر ملامسة تنتهج مصافحة تاريخية وتتقاطع مع المتخيل الجغرافي بين زنجبار وبلوشيستان، وبين الإنكليز والأميركان. ويقول الروائي في هذا الشأن “أخذت قضية تجارة الرق والتبشير بالمسيحية في شبه الجزيرة العربية المحور الرئيس في الرواية، وأضحى المحيط في امتداده من الشرق الأفريقي بين زنجبار وممباسا تطابقا متكاملا مع ما حدث في جزيرة غوري السنغالية على الجانب الغربي من أفريقيا كمحطة هامة لتصدير الرق إلى أوروبا والأميركيتين، شكلت بصمة عار في تاريخ الإنسانية. وغدا بحر العرب والخليج العربي محورا جوهريا للانطلاق والإبحار والسفر والهجرة، وفوق كل ذلك التجارة في كل شيء بدءا من البشر إلى خيرات أفريقيا”. ويضيف “مثلت حادثة غرق سفينة عربية في المحيط الهندي وهي تحمل عبيدا انطلاق الحدث الروائي في مساره الأول حيث نتابع حياة ست شخصيات زنجية نجت من الكارثة بجانب ربان السفينة العماني ومساعده، ويكون وصولهم إلى مسقط سببا لتأسيس مدرسة العبيد المحررين لنكتشف حجم أحلام التبشير والتنصير بالمسيحية في المنطقة وارتباطها العميق بالرق والعبودية، وخلفياتها الانثروبولوجية والميثولوجية”. ويقول فريد رمضان مختتما الحوار “الرواية تسعى إلى خلق حالة من الجدل لا تنتهي إلا وتتولد أسئلة أخرى في موضوع آخر بين ثناياها. الجدل في فهم الكون والمسببات والمعطيات ودور الملاذ الديني بصفته نظاما يرتب ويضع مقام الإنسان والكائنات في صورتها التفسيرية المقبولة للنفس والذات. تحولات مهاجرة وبروز هويات جديدة ومركبة وعلى حد قول داريوش شايغان ‘ثوب يخاط بأربعين قطعة من قماش ذي ألف لون‘”.