كما كان متوقعا، كسب اليمين المتطرف الانتخابات في المجر، بعدما راهن في الأشهر الماضية، على «عداء اللاجئين» العرب، وتحويل صورتهم إلى كابوس في عقول مُناصريه. هكذا، سيُواصل، في الأسابيع المقبلة، نصب الأسلاك الشائكة، على الحدود مع صربيا، مع كاميرات حرارية ومروحيات مُراقبة، لمنع وصولهم، والأسوأ من ذلك أنه يستعد للتصويت على قانون يمنع نشاط جمعيات الدفاع عن اللاجئين. يحدث هذا في بلاد أغوتا كريستوف (1935- 2011)، أشهر كاتبة لاجئة، في أوروبا، التي غادرت المجر، تماما مثلما يُغادر لاجئون عرب بلدانهم، بسبب الاستبداد، بعد أن وقع بلدها تحت سطوة السوفييت عام 1956. المجر لم تستفد من درس أغوتا كريستوف، التي فرت من وطنها، مشيا على الأقدام إلى النمسا، وهي تحمل رضيعا في شهره الرابع، ثم إلى سويسرا، التي ستتعلم فيها الفرنسية، وتكتب أهم نصوصها المسرحية والروائية، على غرار «الدفتر الكبير» (1986)، «البرهان» (1988) و«الكذبة الثالثة» (1991)، تنال جوائز كثيرة، بدون أن تتخلى عن هويتها المجرية، فقد كانت دائما تصف الفرنسية ب«اللغة العدوة»، التي شوشت علاقتها بلغتها الأم، ففي آخر سنوات حياتها، ورغم نجاحها الأدبي في الأوساط الفرنكفونية، قررت التوقف عن الكتابة بالفرنسية، أن تنسحب من «هذه الخدعة الهوياتية»، وعادت للكتابة فقط بالمجرية، وحين ماتت، أوصت بأن تُدفن في وطنها، الذي فرت منه مرغمة وهي شابة في الواحدة والعشرين. سيرة ذاتية درس أغوتا كريستوف هو أن اللجوء حتمية وليس خيارا. كانت كتومة، ولا تتحدث عن حياتها الشخصية، ولولا كُتيب «الأمية»، الذي نشرته في جنيف، سنوات قليلة قبل رحيلها، مع العلم أنها أوصت بحرق مذكراتها، ما كنا لنعرف شيئا عن سيرتها. عنونت الكُتيب بالأمية، لأنها كانت فعلا أمية، في سن الواحدة والعشرين، تجهل لغة البلد، الذي لجأت إليه، رغم أنها كانت تكتب وتقرأ بالمجرية، منذ سن الرابعة، فقد وُلدت من أبوين متعلمين. «كانت القراءة أشبه بمرض. «أقرأ كل ما تصل إليه يدي وكل ما أراه، جرائد، كتبا مدرسية، إعلانات، قصاصات أعثر عليها في الشارع، وصفات طبخ، كتب أطفال. كنت أقرأ كل شيء مطبوع. كنت في الرابعة والحرب (العالمية) بدأت لتوها» كتبت. وبعد سبع عشرة سنة، بعدما قمعت الدبابات السوفييتية ثورة بودابست (1956) استدركت: «في سن الواحدة والعشرين، وصلت إلى سويسرا، وبالصدفة إلى مدينة تتكلم الفرنسية. قابلت لغة غريبة كلية عني. حينها بدأت معركتي لامتلاك هذه اللغة. معركة طويلة وحامية استمرت عمرا كله». لكن قبل أن تواجه لغة جديدة عنها، كان عليها مواجهة قدرها، أن تنجو بجلدها، وتلجأ إلى بلد آمن. كانت تجربة حاسمة في حياتها، تتذكرها: «مشينا طويلا في الغابة، طويلا جدا. أغصان كانت تجرح وجوهنا. كنا نسقط في حفر وأوراق ميتة تبلل أحذيتنا. شعرنا بأننا ندور في حلقة مفرغة. طفل صرخ: أنا خائف. أريد أن أعود. أريد أن أنام. آخر كان يبكي وأم قالت: لقد ضعنا. شاب رد عليها: لنتوقف، إذا واصلنا في هذا الطريق سنعود إلى المجر. كنا نعرف ما معنى العودة إلى المجر: السجن لأننا عبرنا الحدود بطريقة غير شرعية، أو ربما سيُطلق علينا حراس غابات روس سكارى النار». قبل حوالي ستين عاما، كانت أغوتا كريستوف، تصف المشاعر نفسها، التي يمر بها الآن لاجئ قادم من الشرق الأوسط إلى أوروبا. تركت أهلها بدون أن تجد وقتا لتوديعهم. هي وجدت حينها سويسرا تعطف على حالها، بينما بلدها الأم المجر مازال يتنكر لماضيه، ويفعل كل شيء لمنع وصول مهاجرين ولاجئين إليه. لجوء أغوتا كريستوف، إلى أوروبا الغربية، لم يكن فقط لجوءا سياسيا، بعد أن استولى السوفييت على بلدها، بل كان أيضا لجوءا ثقافيا. وتواصل سرد رحلتها: «زوجي كان يقضي يومه، أمام سفارات مختلفة، لإيجاد بلد يستقبلنا». وافقت سويسرا على طلبهم لكن الشقاء لم ينته. فقد وجدت نفسها، مع عائلتها الصغيرة، في ثكنة، حولت إلى مركز لاجئين، بالقرب منها ملعب كرة قدم. «كل أحد، بعد نهاية مباريات كرة القدم، يأتي المتفرجون لينظروا إلينا من خلف سياج الثكنة. يقدمون لنا شوكولاتة وحبات برتقال، وكذا سجائر وأحيانا مالا. كما لو أننا في مزرعة حيوانات» كتبت. قبل أن تتساءل: «كيف كانت ستكون حياتي لو أنني لم أغادر بلدي؟ قاسية وفقيرة. الشيء الأكيد أنني لم أكن لأصير كاتبة». في بدايات حياتها السويسرية، كانت أغوتا تخرج صباحا، في السادسة للعمل في مصنع، ولا تعود إلى بيتها والاهتمام بابنتها، سوى في الخامسة بعد الظهر. كانت تحاول أن تكتب قصائد في أوقات الفراغ، مع ذلك فقد كانت تظن أنها لن تصير كاتبة. «بوصولي إلى سويسرا، طموحي بأن أصير كاتبة كان منعدما». بعد خمسة عشر عاما من اللجوء، تعلمت الفرنسية، كتبت مسرحيتان، تبنتهما فرقة هواة، ثم وصلتا إلى الراديو، وهكذا أعادت بعث حياتها ككاتبة، بعد سنين من الإحباط. ثم أتمت روايتها الأولى «الدفتر الكبير»، التي رفضتها دارا غاليمار وغراسيي ونشرتها دار «لوسوي»، تُرجمت إلى ثماني عشرة لغة، حول العالم، وتتواصل بعد ذلك نجاحاتها مع أعمال أخرى. حين بلغت ابنة أغوتا كريستوف السادسة، ودخلت المدرسة، كانت أمها مثلها قد التحقت لتوها، بدروس مسائية، لتعلم الفرنسية، هذه الكاتبة اللاجئة، التي تعلمنا الصبر وجرأة المواجهة، هي نموذج للاجئين. تركت حياتها الناعمة، في وطنها، وغامرت إلى حدود لا تعرفها، وانتصرت عليها، في الأخير، بدون أن تقطع صلتها بالمجر، الذي كنت تحلم بأن يتخلص من سلطة الغرباء، ومن دبابات «الأخ الأكبر»، ويتصالح مع ماضيه العريق. لكن اليوم يحصل العكس، المجر يزداد قربا من موسكو وانغلاقا على نفسه، بحجة وصول لاجئين عرب إليه، يصفهم الحزب اليميني الحاكم بأنهم «يمثلون خطرا على الحضارة الأوروبية»، فطريق البلقان، الذي كان يقود إلى ألمانيا وبريطانيا، أُغلق بأسلاك شائكة، ترتفع أربعة أمتار، وعلى طول أكثر من مئة كيلومتر. المجر باتت تخاف من اللاجئين، تُعاديهم، وتتنكر لماضيها القريب، يوم كانت هي نفسها تصدر مئات الآلاف من اللاجئين إلى دول أوروبا الغربية. ...... ٭ كاتب من الجزائر