قبضة مغلقة توترا حتى تكاد أن تدمى، أنفاس كتمها الخوف، دموع ألم وتعاطف تتساقط رغما عنا، وفزع لا هوادة فيه. هذه هي المشاعر التي تعترينا أثناء مشاهدة فيلم «أوتويا 22 يوليو» للمخرج النرويجي إريك بوب، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في دورته الثامنة والستين (15 إلى 25 فبراير/شباط الماضي). يأخذنا بوب، في فيلمه المكون من لقطة واحدة ممتدة، إلى قلب الفزع، إلى منظور الضحايا في يوم 22 يوليو/تموز 2011، حين اقتحم المسلح اليميني المتطرف أندرياس بريفيك معسكرا للشباب في جزيرة أوتويا النرويجية، وفتح النار عشوائيا على مدى 72 دقيقة، فقتل 69 بريئا وأصاب العشرات بإصابات بالغة. يقدم بوب في الفيلم، الذي صور بصورة تامة من منظور الضحايا، سردا روائيا للهجوم وما كابده الضحايا من ألم وخوف عبر التفاصيل والشهادات اللتين رواهما الناجون، واللتين يضعنا بوب وسط جحيمها. ينأى الفيلم بنفسه عن تصوير الدماء والأشلاء، وينأى بنفسه عن ابتزاز المشاعر والإثارة، فتأتينا مشاعر الضحايا مكثفة صادقة عما كابدوه وقت الهجوم. في عالم أصبح فيه ضحايا الإرهاب والقتل العشوائي والحروب مجرد أرقام تتلى في نشرات الأخبار، نسمع الرقم فلا نفكر أنه كان لشخص له حياة وأحلام، ولا نفكر في ما شعر به من خوف وهو يواجه الموت، يأتينا «أوتويا 22 يوليو» بمثابة صفعة مدوية تذكرنا بمن راحوا ضحية الإرهاب وبالكابوس الذي واجهوه. لا يختار بوب شخصية حقيقية من بين من عاشوا الهجوم لتكون الشخصية المحورية في الفيلم، بل يختار أن تكون أحداث الفيلم واقعية مستقاة من شهادات الناجين بشخصية محورية متخيلة. علّه يقصد بهذا الاختيار أن ما حدث مأساة الجميع وفجيعتهم، وليس مأساة فرد بعينه وليس رواية فرد بعينه. ولا يزعم الفيلم انفراده بالحقيقة كاملة، ولا أن السيناريو، الذي كتبه سيف رايندرام إلياسن وأنا باخ-فيغ، يمثل التصور الكامل لما جرى يومها على الجزيرة. فالفيلم لا يسعى إلى اختزال الحقيقة في قصة واحدة، بل يجعل من هذه القصة مدخلا لوضعنا وجها لوجه مع ما واجهه الضحايا من فزع يوم الهجوم. الشخصية المحورية في الفيلم هي كايا ذات الثامنة عشرة ربيعا (أندريا برنتسين في أداء مذهل في قوته وحضوره وتأثيره). كايا جاءت إلى معسكر شباب حزب العمال النرويجي في أوتويا، يحدوها أمل أن تدخل عالم السياسة في المستقبل، تأتي إلى الجزيرة في صحبة اختها الأصغر أميلي، حتى يتكون لدى الأخت الصغرى وعي اجتماعي وسياسي. تتبدى لنا منذ البداية أن كايا تلعب دور الراعي لشقيقتها الأصغر ويتكون لدينا الحس بأنه في حال وقوع مكره، ستكون كايا رابطة الجأش وصاحبة زمام المبادرة في مساعدة الآخرين. يبدأ الفيلم بمشهد الانفجار الذي وقع في أحد المقار الحكومية في أوسلو يوم 22 يوليو 2011، ثم ينتقل مباشرة إلى جزيرة أوتويا، حيث لا يشعر الشباب المتجمعين في معسكر الشباب بأي خطر شخصي، ويتساءلون في ما بينهم عن سبب الانفجار في أوسلو: هل هو قنبلة؟ هل انفجار للغاز؟ يتمنى شاب يدعى مراد من أصول مسلمة ألا يكون مدبر التفجير، إن كان تفجيرا حقا، مسلما، ويحاول أصدقاؤه تطمينه. يبدو كل شيء في الجزيرة هادئا مسالما ويبدو كما لو أن العالم الخارجي بشروره وأخطاره بعيدا. فجأة تُسمع طلقات النار، يسمعها الشباب فلا يعرفون مصدرها ولا من يطلقها، ويتساءلون في ما بينهم عما إذا كانت هناك مناورة للشرطة على الجزيرة. ثم يبدأ الفزع يهرع الجميع ركضا في كل الاتجاهات في محاولة للاختباء وهم يصرخون «إنهم يطلقون النار على الناس». فزع تام، خوف يسيطر على الأجواء، إحساس الفريسة المطاردة يسيطر على الجميع، عدم فهم لما يجري، ودوي طلقات مستمر لا ينقطع. يعتمد بوب على تصوير الرعب النفسي للضحايا والإحساس بالذعر من خطر داهم غير مفهوم، ولكنه ينأى بالفيلم عن تصوير المهاجم أو عمليات القتل ذاتها. يبقى المهاجم خطرا داهما لا يعلم الضحايا هويته ودوافعه. إنهم كغيرهم من ضحايا إطلاقات النار العشوائية والهجمات على الأبرياء في العالم، يواجهون الفزع والموت بدون جريرة ارتكبوها. ينتقل بوب من تصوير الرعب العام في الجزيرة إلى التركيز على كايا، التي تحاول بكل ما أوتيت من قوة البقاء على قيد الحياة والعثور على شقيقتها التي كانت بعيدة عنها وقت الهجوم، ولا تعلم ما إن كانت على قيد الحياة أم قتلت مع من قتلوا. يضعنا الفيلم وسط الرعب مع كايا، ننتفض ذعرا معها مع كل طلقة تطلق، ونشاركها في رحلتها للعثور على شقيقتها ولسعيها للنجاة. 72 دقيقة هي مدة الهجوم نعيشها لحظة بلحظة بكل ألمها وفزعها وتوترها مع كايا. لا يسعى الفيلم إلى فهم ما حدث ولا إلى تحليله ولا إلى الوصول إلى صورة كبرى، بقدر سعيه إلى وضعنا داخل أتون الحدث والتعرض للضغط والألم النفسي الذي عاشه الضحايا. ولعلّ عدم خوض الفيلم في تحليل الحدث ودوافعه هو أهم نقاط قوته. إنه فيلم اختار لنفسه ألا يقدم خطبة عصماء، بل اختار الطريق الأصعب وهو إشعارنا بالخوف العظيم والذعر الداهم، لندرك أن قتلى الهجمات أيا كانوا بشر مثلنا وليسوا مجرد أرقام في إحصائيات.