لا يمكننا فهم هذا النشيج الذي يدور بين حين وآخر عن انعدام تأثير الفن في محيطه المجتمعي كذريعة لإدانة أوضاع سياسية لا يتفق معها الكاتب. فهذا الاعتقاد؛ فضلاً عن تزييفه المطلق وعي العامة، يبدو أكثر ارتباطاً بالأجر الذي سيحصل عليه الكاتب مقابل هذا السبب بأكثر من علاقته بقضية اسمها «فقدان الفن لوظيفته». وهذا يستدعي ملاحظة أنه إذا كانت الثقافة هي مركب القيم والأعراف والمعتقدات التي تؤلف حياة الجماعة، فإن الكاتب، لا شك، هو صائغها. لكن تحولات تلك القيم تبدو عصيّة على الفهم في كثير من الأحيان. هذا ما يدفع الكاتب إلى الاعتقاد بأنه واحد من طرائد النظام الاجتماعي الذي يعمل ضمن منظومات قاسية من التدجين، فيذهب عادة إلى اتهام قارئه بالغفلة تحت تأثيرات الوعي الأفقي بعملية التطور. فاتساع دائرة القراء لا يعني بالضرورة نضجاً في الأنساق الاجتماعية، لأن تلك الأنساق خاضعة، بطبيعتها، لنظام أكبر من التناقضات هو نفسه واقع القوى الاجتماعية المتضاربة المصالح والإرادات. والثابت أن البشر حاصل جمع ما يتعلمونه على ما يقول علم الاجتماع. لكن الصائغ «الكاتب» هنا ليس مسؤولاً دائماً عن سلامة الذوق الذي يعاين عمله. فالقارئ لا يمثل دائماً المردود الافتراضي لعمل الكاتب؛ لأنه ليس ممثلاً لنفسه بل هو أحد تمثيلات العقل الجمعي. ويجب ألا ننسى أن هذا القارئ الذي عاين كاتبه خازناً للقيمة؛ عايَنه أيضاً وهو يبيع ذمته لمن يدفع أكثر. وكما عايَن الثقافة وهي تؤسس لمفهوم الدولة العادلة عايَنها أيضاً وهي تتحول إلى مضامين طبقية شديدة البؤس. الأمر طبعاً ليس مقصوراً على المثقف العربي، فالأحلاف العسكرية وأجهزة الاستخبارات ومؤسسات الحكم ورجال المال وتجار السلاح يملكون أيضاً مثقفين قادرين على استنبات الورد من شواهد القبور. هؤلاء هم المثقفون الذين احتقروا طبقتهم وناضلوا للالتحاق بطبقة أخرى، لذلك يسميهم تيري إيغلتون «أصحاب الرفعة المسوّقة». وإذا سلّمنا بأن الفن ليس غائياً، أي أنه نشاط خال من الغرض، باعتباره ممارسة مطلقة الحرية، فإنه سيكون من الهزل مطالبة القارئ بأن يستحيل ملاكاً بمجرد أن يطالع ما نكتب. وهنا سيكفينا الدعاء بأن يظل الفن دولة بلا سلاح، دولة جمالية قوامها الذوق والعقل كما تمنّاها كانط. ولا شك في أن الفكر الشمولي أورثنا معتقدات انتهت بعشرات الكتاب إلى ممارسة عسف تجاوزَ أحياناً عسفَ الأنظمة التي عملوا لمصلحتها ثم حاولوا غسل صحائفهم من سوادٍ يبدو أنه يستعصى على النقاء. وقد سخر كارل بوبر من هؤلاء لاعتقادهم المطلق بأن ثمة قوانين مطلقة للتقدم تحكم هذا العالم، وهو أمر لم يقم الدليل على صحته في أي لحظة، لذلك قد يتزامن انحطاط الفن مع الرفاه والثراء الفاحش والأنظمة الديموقراطية، في الوقت الذي يزدهر فيه وسط مجتمعات تتآكلها الحروب وثورات الجياع. وقد يبدو مدهشاً أن تمر لحظات على البشرية كانت النخبة فيها ترى أن نظام الرِق هو الذي أنتج الحضارة الهيلينية، ثم الإغريقية. ويقول المؤرخ والكاتب الفرنسي جان فريفيل إننا يمكننا أن ننعت الرق بتهم عامة وأن نطلق العنان لغضبنا من هذه النظم المتسربلة بالعار، لكن ما حدث هو الحقيقة. هذا يعني أن مفهوم القيمة طرأت عليه تحولات عميقة تبدو بعيدة عن وعي الكثير من الكتاب؛ وهو الأمر الذي يعزز من عزلتهم ويجعلهم أكثر استمساكاً بالماضي ومن ثم استدعاء الأشكال الكتابية البالية التي تعيش على نعي القيمة الأخلاقية بما فيها القيم ذات الترجيع اللاهوتي. إن التصورات المعرفية التي تنشد تخليص الفنان من أوهام كثيرة تبدو في نظر كثيرين عارية عن الأخلاق، لكنها في الحقيقة تبدو أكثر إدراكاً للحقائق الجارحة. فالكاتب الذي يعيش في ظل الأنظمة الرأسمالية يدرك جيداً وسيردد دائماً خلف آدم سميث أن الحكمة السيئة ستسود فقط لأنها الحكمة التي يؤمن بها السادة. هذا لا يعني بالطبع أن الكاتب شريك في تسويغ تلك القمامة، لكنه يعني بالضرورة إزاحة التاريخ لمصلحة اللا تاريخ، وعلى نحو أدق إزاحة القيمة لمصلحة القوة. والقوة هنا ليست تاريخية لأنها بنت قوانين التقدم المجرّدة وليست بنت التراكم الحضاري. ولأن البُنَى الاجتماعية للدولة الحديثة تبدو تعقيداتها أكبر من الأفهام أحياناً، فقد تعقّد مفهوم وظيفة الإبداع نفسه على نحو غير مسبوق. لكن هذه الأوصاف لا تبدو مخيفة للكاتب الذي يرى تلك التعقيدات جزءاً من التعقيدات التي خلقها مفهوم الالتزام نفسه، عندما تصوّر الكاتب أنه حامل سراج المعرفة. فماركس كواحد من أكبر دعاة الالتزام يرى أن الالتزام الوحيد للكاتب قِبَلَ نفسه؛ وكان يقول ساخراً: ليس من الممكن أن أمنح حائكاً قطعة قماش لصناعة بزة لسهرة فرنسية فيصنع لي بزة لسهرة رومانية. هذا لو حدث يعني أن قوانين الجمال أزلية وهي بطبيعة الحال ليست كذلك. فإذا سلّمنا بتغير القيمة الجمالية فلا بد أن نسلّم بتحولات الوظيفة. وما يقوله ماركس يجد تفسيره في قلب المادية التاريخية التي لا تؤمن بالتكرار في التاريخ البشري، وهو ما يمثل الفارق الكبير بين العقل الأفلاطوني المضجر الذي بحث لكل شيء عن مثال، لكنه شهد في النهاية فشلاً ذريعاً لجمهوريته، وهو المصير نفسه الذي آلت إليه مدينتان فاضلتان لدى توماس مور والفارابي. ومع ذلك بقي الفن مؤمناً بوظيفته بمقدار إيمانه بتحولات تلك الوظيفة، كما بقي الفنان مؤمناً بفعله، كواحد من أعلى تعبيرات تحرير إرادته، قبل أن يكون فعلاً يستهدف تحرير إرادة الآخرين.