يصف المخرج الصربي بوريس ميتيك فيلمه الأخير “في مديح اللاشيء” بأنّه وثائقي ساتيري يستعُيد نص “في مديح فولي” الذي كتبه ديسيديروس إراسموس أول القرن السادس عشر، الذي ينتقد الكنيسة الكاثوليكيّة وممارساتها عبر حكاية فولي التي تترك عزلتها وتهبط لتخطب بالجموع، ثم تتنقل بين البلدان المختلفة لتثبت أن الحنكة تكون بالجنون لا بالعقل، وهذا ما يحصل في وثائقي ميتيك، إذ يقرّر اللاشيء أن يحضر بيننا ويثبت وجوده. استغرق تصوير الفيلم حوالي ثماني سنوات، كونه مؤلفا من سلسلة من الصور واللقطات المختلفة المصوّرة في سبعين بلدا وبالاستعانة ب62 مصورا، أما اللاشيء فنسمعه بصوت الأميركي عرّاب البانك الشهير إيغي بوب، كما أن الموسيقى التصويرية للفيلم من تأليف الفرنسي باسكال كومليد والفرقة البريطانية “ذا تايغر ليليز”. وكما في الأفلام الصامتة تتخلل الفيلم شرائح سوداء تحوي نصوصا تصف حالة اللاشيء العاطفية والنفسية وما يقوم به، وكيف قرّر أن يترك عزلته ويتحدث معنا نثرا، إذ نسمع كلامه موزونا ومقفى، ساخرا من البشر تارة ومتعاطفا معهم تارة أخرى، ليخبرنا أن لاشيء في هذا الفيلم، لا شخصيات، لا دراما، لا حبكات فرعية ولا تأويلات فلسفية، وإن لم نلاحظ شيئا فلا مشكلة، “ف”لاشيء” هو الذي يتحدث”. ويُشكل الفيلم وعلى طوال سبعين دقيقة ما يشبه مانيفستو يسخر من كل شيء، بالرغم من تفاوت القيمة الأدبية ل”النثر” الذي نسمعه، إلاّ أنه يطرح العديد من التساؤلات المرتبطة بموقف الفرد من العالم وما حوله، إذ يقول اللاشيء إنه حاضر في كل مكان، هو عالم بذواتنا التي تنتمي للعدم، هو عارف بكل حركة لم نقم بها، كل رسالة لم نرسلها، وكل صمت لم نقل فيه شيئا، فاللاشيء ينتمي للوجود، فهو وليد الاحتمالات المؤجلة ومخاوفنا وترددنا، هو حاضر في كل لحظة، ويمحى كلما حاولنا التقاطه. اللاشيء هو الحقيقة الواحدة التي لا نختلف عليها، هو الفسحة الخفية التي نلقي فيها عيوبنا النفسية ونواقصنا الاجتماعية، فهو يتبنّى نقاط ضعفنا ويحتفظ بكل لحظاتنا الفاشلة، وخصوصا أن معرفته تفوق تلك التي نمتلكها، فهو النتيجة الحتمية لكل مشاريعنا المستقبلية، وهو الوحيد المتيقن مما سيحدث حين نموت، لا شيء. يوجه الفيلم العديد من الانتقادات لمفهوم الحضارة بأشكالها المختلفة، ليطرح اللاشيء سؤال “لا أكون أو أكون؟، لكن لم السؤال في ظل كل هذا الابتذال”. فهو يعلم أنه سينتصر، إذ يوجه انتقاداته للحضارة الغربية وقيم التسليع التي تسعى للوقوف بوجهه، ثم ينتقل للعرب ويتبنى المتخيّل الاستشراقي عنهم، لنرى صورا لصحراء فقط وكلاما رومانسيا عن أمجاد العرب ودورهم في حفظ الحضارة الغربية، ثم لوما وانتقادا للفكر المتشدد وكتم حرية التعبير والمعتقد، لينتهي بأنهم لم يقدموا شيئا منذ المئات من السنوات. وينتقد الفيلم الحضارة الغربية مرة أخرى والعبودية التي تمارسها على الآخرين، عبر احتكار مفاهيم الحرية والأخلاق ثم حولت اللاشيء إلى مؤسسة اقتصادية عابرة للقارات، فهي تبيع وتشتري السلع وتنتجها وتأسر البشر خوفا من أن تتحول إلى مستعمرة فاشلة، كحال من استعمرتهم سابقا، فاللاشيء يعادل الخوف، وهو أفضل سياسة تسويقية، “اشتر أكثر لأنك دون بضاعة، تصبح لا شيء”. وفي النهاية يدعونا اللاشيء لاختبار بسيط، لنجرب شيئا ربما تتغير حياتنا، إذ يقول “جربتُ أن أكون إنسانا، الآن حاول أنت أن تكون لا شيء”.